ضمن سياقٍ ذي صلة بختام مقالتي المنشورة هنا الأربعاء الماضي، استحضرتُ من أرشيف الذاكرة زيارةً للسلام والتحية فقط، وليست لإجراء لقاء صحافي، كنتُ أديتها للرئيس ياسر عرفات في تونس، إما في خواتيم سنة 1988، وإما مطلع عام 1989. لستُ متأكداً من التاريخ بالضبط، وضيق الوقت يحول دون الرجوع إلى دفاتر تدوين اليوميات للتدقيق. أما الذي أنا على يقين منه، فهو التالي: كنتُ أنتظر في بهو مكتب أبو عمار… دق جرس الهاتف، فردتْ السيدةُ أم ناصر، مديرةُ مكتب «الختيار» آنذاك. تحدثتْ «أمُّ الفدائيين»، كما كانت تُلقَّب، بضع ثوانٍ، ثم أبقت الهاتف في يدٍ، وتناولت بيدها الأخرى هاتفاً آخر يوصلها بالرئيس. سمعتها تقول إن شخصاً من طرف الشيخ أحمد ياسين على الخط. ثوانٍ أخرى، ثم وضعتْ الهاتف الخاص، وعادت إلى الشخص المتصل قائلةً إن الأخ أبو عمار سوف يتصل بكم لاحقاً.
جانب آخر لستُ متأكداً منه في هذه اللحظة، بشأن ما إذا كان مؤسس وقائد حركة «حماس» موجوداً في تونس يومذاك للقاء مؤسس وزعيم حركة «فتح»، أم إنه كان يتصل هاتفياً من قطاع غزة. بيد أن الأشمل، والأهم، من تفصيل كهذا، هو أن التواصل المباشر كان قائماً بين القائدَين. رُبَّ متسائل يستغرب: ومَنْ ذا الذي يزعم أن الانقطاع التام عن أي نوع من التشاور ساد العلاقة بين عرفات وياسين؟ أجيب باختصار: لم يمر عليَّ زعمٌ كهذا من قبل. لكن مسار العلاقات بين أهم حركتين في تاريخ النضال الفلسطيني المعاصر، الذي كان قائماً أيام تولي الرجلين غير العاديين زمام قيادة حركتيهما، ليس هو المسار ذاته بعدهما. ليس القصد هنا الانتقاص من قيمة باقي الفصائل الفلسطينية، أو قيادات الحركتين، التي خَلَفت ياسين في «حماس» أولاً، وعرفات في «فتح» لاحقاً، وكلاهما رحل في عام 2004. كذلك ليس المقصود تقديم الأشخاص على الفصائل، إنما معروف أن طبيعة الشخص القائد لأي تنظيم سياسي، المُركّبة من خلفيات نشأته، وتراكمات تجربته، إضافة إلى منابع فكره، تؤثر بشكل مباشر على مسار ذلك التنظيم، وعلى طبيعة علاقاته بغيره من التنظيمات.
استكمالاً لما تقدم، لعل من المفيد التذكير بأن أحمد ياسين، ومؤسسي «حماس» جميعاً، بدأوا ملتزمين ببيعة «الإخوان المسلمين». ثم إن ياسر عرفات، وصلاح خلف، وخليل الوزير، بدأوا طريقهم السياسي مع «الجماعة» ذاتها. ورغم أن مؤسسي «فتح» لم يواصلوا السير على الطريق نفسها، فإن احترام الود القديم بقي قائماً. في ضوء ذلك، هل يمكن المجازفة بافتراض أن غياب القائدَين عرفات وياسين أسهم كثيراً في الوصول إلى وضع «الانقسام البغيض»، كما وُصِفت حال الفلسطينيين منذ صيف 2007؟ نعم، تلك مجازفة تستحق تحمل ما قد يترتب عليها من ردود فعل رافضة من جانب البعض. لكنني سأجازف أكثر فأفترض أن أسباب الانقسام ذاتها لم تكن لتتوفر، ولا كان الوضع تطور وصولاً إلى «طوفان الأقصى». لكن يبقى الرجاء أن تدرك القيادات الراهنة للحركتين خطورة الحال الفلسطينية الراهنة، فتضع كل ما يُفرِّق جانباً، وتبادر فوراً إلى كل ما يلمّ الشمل.