عندما بزغت حقبة الهيمنة الأحادية المطلقة، لتقود الولايات المتحدة العالم بمفردها في أوائل التسعينات من القرن الماضي، بعدما حطت الحرب الباردة أوزارها، وانهار الاتحاد السوفيتي، سعت واشنطن إلى تحويل شكل الصراع، من صراع بين شرق الأرض وغربها، إلى آخر، بين الشمال والجنوب، فخرجت علينا بما يسمى بـ”صراع الحضارات”، والتي نظر لها الكاتب الأمريكي صموئيل هنتنجتون، في مقال، ثم تحولت إلى كتاب كامل، يحملان نفس الاسم، وتقوم على تحويل دفة الصراع بين الرأسمالية والشيوعية، والذي ساد في حقبة الحرب الباردة، إلى صراع بين الحضارة الإسلامية، ونظيرتها الغربية، وهو الأمر الذي خرج من إطار الكلمات والسطور، إلى الواقع العملي، بعد ذلك بسنوات من خلال أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من غزوات، سواء بأفغانستان أو العراق، حملت في الخطاب الأمريكي صبغة مقدسة.
ولعل الحديث عن انتقال صراع الحضارات من إطار التنظير السياسي إلى الواقع العملي، يكشف حقيقة مفادها أن الهيمنة ترتبط بالأساس في استمرار حالة الصراع، وهو الأمر الذي ربما تناولته في مقالات سابقة، إلا أن الأمر الملفت للانتباه أن واشنطن وإن كانت هي القائد في إدارة الصراع الجديد سياسيا وميدانيا، إلا أن ثمة تحول ملفت، في النهج الأمريكي، خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تجلى بوضوح في إشراك الغرب الأوروبي، وهو ما بدا في الحرب في أفغانستان والعراق، وكلاهما كانت أمريكا هي القوة المهيمنة سياسيا وعسكريا في إداراتهما، ولكن شهدت مشاركة ولو رمزية من قبل الحلفاء، وهو ما يضفي شرعية للحرب نفسها، من جانب، ناهيك عن العمل على تأصيل الفكرة نفسها، التي يدور حول الصراع الجديد، والتي تعتمد على أساس ديني، وهو ما امتد بعد ذلك في صورة التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الإرهابي، وإن كان ذلك بصورة أكثر اتساعا.
السطور السابقة تعكس التحول في إدارة واشنطن لتحالفاتها، فلو تبنت نهجا أحاديا في إدارة المعارك سياسيا وميدانيا، خلال الحرب الباردة، أو بالأحرى في أعقاب الحروب العالمية، في ضوء حالة الضعف التي انتابت القوى الأوروبية في ذلك الوقت جراء مرورها بمرحلة إعادة بناء، فإنها اتخذت نهجا تعدديا، أو يمكننا اعتباره “ثنائيا” (أمريكيا أوروبيا)، في معاركها خلال الهيمنة الأحادية، بينما تبدو الأمور تتخذ منحى ثالث في المرحلة الراهنة، تتجلى في توريط الغرب الأوروبي، ليخوض معاركه بمفرده، وهو ما قد يفتح الباب أمام توكيله لقيادة المعارك نيابة عن واشنطن في مرحلة لاحقة.
فلو نظرنا إلى المشهد الأوكراني، باعتباره النموذج الصارخ للتحول الكبير في الدور الأمريكي، نجد أن الأمر لا يقتصر على مجرد التخلي عن الحليف الأوروبي، في مواجهة روسيا، والتي تعد خصما تاريخيا لواشنطن، وإنما محاولة صريحة لوضع الأوروبيين في إطار المواجهة الصريحة مع موسكو، وهو ما يبدو في العديد من المعطيات، أولها عبر التنصل من تزويد كييف بالسلاح، ولو جزئيا، لتضع على عاتق القارة العجوز مهمة تسليحها، ثانيها من خلال تخفيف العقوبات الأمريكية، فتصبح أوروبا هي الطرف المخول بفرض مزيد من العقوبات على موسكو، وكلا الأمرين يدفعان نحو مواجهة مباشرة بين الغرب الأوروبي وموسكو.
والواقع أن العلاقات الأمريكية الروسية، وإن بدت أفضل، فهذا الأمر قد يكون مرحليا، فالصين هي الخصم الرئيسي للولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، خاصة مع عجز الميزان التجاري الأمريكي، وبالتالي فالمواجهة الأمريكية مع روسيا مؤجلة، أو ربما باتت أوروبا منتدبة لخوضها نيابة عن واشنطن، على الأقل في إطار محاولات استنزاف موسكو، وهو ما يعكس نهاية الاعتماد المطلق من قبل أوروبا على الحليف الأمريكي، من جانب، وتغيير شروط التحالف، بحيث يكون الحلفاء أكثر انغماسا في الصراعات التي تخوضها القوى الكبرى بصورة مباشرة، وهو ما يمثل خطرا كبيرا على القارة، والتي قبلت التحالف بشروطها، وعلى رأسها ضمان أكبر قدر من الاستقرار، عبر مسارين، أولهما الحصول على الحماية المباشرة من قبل الحليف، والثاني النأي بها جغرافيا قدر الإمكان عن مناطق الصراع.
أوروبا تنبهت إلى الرؤية الأمريكية، فاتجهت نحو منحى أكثر استقلالية في العديد من المسارات، منها مواقفها من القضية الفلسطينية، وكذلك احتفاظها بالتعاون مع الصين رغم الخلافات معها، بينما اتجهت لإدارة علاقاتها مع العديد من القوى الإقليمية في مختلف مناطق العالم، بصرف النظر عن الموقف الأمريكي منها، وهو ما يبدو في المواقف المناوئة لإسرائيل تحت إدارة بنيامين نتنياهو، في مشهد ساهم بصورة كبيرة في تمرير اتفاق وقف إطلاق النار، ليتوج بقمة شرم الشيخ، التي شهدت حضورا طاغيا من قبل العديد من دول العالم، وعلى رأسهم العديد من قادة الغرب الأوروبي
ولكن تلك الحالة من الاستقلالية في الحالة الأوروبية، وإن كانت تتعارض مع مفهوم التحالف بمفهومه التقليدي في ضوء مفاهيم المعسكرات التي سادت خلال مرحلة ما بعد الحروب العالمية، إلا أنها لا تؤدي إلى انهيار كامل في العلاقة مع واشنطن، خاصة وأن القيادة الأمريكية للعالم جاءت من رحم التحالف مع أوروبا، في إطار ما يسمى بالمعسكر الغربي، وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام القارة العجوز إلى انتهاج ما يمكننا تسميته بـ”الشراكة المتقاطعة”، والتي تقوم في الأساس على المصالح، وهو ما يدفع نحو إعادة صياغة العلاقة مع جميع أطراف المعادلة الدولية، فلا عداء مع طرف لمجرد أن طرفا آخر يراه كذلك، على عكس الأمور إبان سنوات ما بعد الحرب الباردة، وهو ما يفتح مساحة للمناورة أمام القوى الأوروبية لإدارة علاقاتها الدولية في المرحلة المقبلة، في ضوء الحاجة إلى بناء علاقات متوازنة مع الجميع، حتى وإن كانت، أو مازالت، تنظر لها باعتبارها ألد الخصوم، في سبيل حل القضايا العالقة والتطلع إلى مستقبل أكثر استقرارا.
وهنا يمكننا القول بأن العالم الجديد لم يعد مقسومًا بين معسكرين كما كان في الحرب الباردة، بل أصبح شبكة متداخلة من المصالح المتقاطعة، تتقاطع فيها طرق التعاون والمنافسة، وتتشكل فيها القوة من القدرة على إدارة هذه التقاطعات لا من فرض الولاء أو الهيمنة، عبر فرض إرادة قوى بعينها على الأطراف الأخرى، فالقوة في هذا العالم الجديد لا تُقاس بعدد الحلفاء، بل بقدرة الدولة على البقاء في المنتصف دون أن تفقد وزنها.

