الفقر في العراق: ظاهرة معقدة تتجاوز الرقميات
مقدمة
لم يعد الفقر في العراق رقمًا يُسجَّل في تقارير المؤسسات الدولية، بل أصبح صورة معقّدة من الحرمان المتشابك الذي يعكس خللاً في البنية الاقتصادية والاجتماعية معًا. أحدث التقارير الرسمية أظهرت أن البلاد تعيش مفارقة دقيقة بين تحسن المؤشرات النقدية من جهة، وازدياد مظاهر الحرمان المركب من جهة أخرى.
خلفية الفقر في العراق
يقول الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي إن “تقرير الفقر المتعدد الأبعاد الذي صدر في العراق أظهر أن 36.8% من العراقيين، أي ما يقارب 17 مليون شخص، يعانون من فقر متعدد الأبعاد، يُقاس بخمس مؤشرات أساسية هي التعليم، والصحة، ومستوى المعيشة، والعمل، والصدمات”. وأضاف أن “17.5% من العراقيين يعانون من فقر الدخل، أي يعيشون على متوسط دخل شهري يقل عن 137 ألف دينار”، وهو الخط الذي حددته وزارة التخطيط كمعيار للفقر النقدي.
الفقر المتعدد الأبعاد
تُشير تقارير البنك الدولي ووزارة التخطيط إلى أن فقر الدخل في العراق انخفض خلال العامين الأخيرين إلى حدود 17.5%، بعد أن كان يتراوح بين 21 و24% في عام 2022. ويُعزى هذا التراجع إلى توسع برامج الحماية الاجتماعية وتعزيز البطاقة التموينية ودعم بعض الشرائح التعليمية والصحية. لكنّ الفقر المتعدد الأبعاد، بحسب بيانات الأمم المتحدة لعام 2025، لا يزال يطال نحو 17.7% من السكان كمعدل وطني.
ازدواج الهيكلي للفقر
هذا الانقسام بين فقر الدخل وفقر الأبعاد يعكس ما يسميه الباحثون «الازدواج الهيكلي للفقر». فبينما تنجح الدولة في رفع بعض الأسر فوق خط الفقر النقدي، تبقى تلك الأسر أسيرة حرمانٍ غير منظور في التعليم والصحة والسكن والفرص. نصف أطفال العراق تقريبًا يعيشون حالة فقر متعدد الأبعاد وفق وثيقة أممية حديثة.
الفقر البيئي
وتشير تحليلات بحثية إلى أن أي معالجة جذرية للفقر في العراق يجب أن تأخذ بعين الاعتبار ارتباطه بعوامل مناخية متزايدة الخطورة. فموجات الجفاف والتصحر أفقدت آلاف المزارعين مصادر رزقهم، ودفعتهم نحو البطالة والهجرة القسرية داخل البلاد.
التحديات والآفاق
يرى مختصون في التنمية أن هذه الأرقام تُبرز تحوّل طبيعة الفقر في العراق من ظاهرة نقدية إلى ظاهرة بنيوية. فالمواطن الذي يتقاضى راتبًا بالكاد يغطي معيشته، ويعيش في منطقة بلا خدمات صحية أو تعليمية أو بنية مائية، يُعد فقيرًا بالمعنى الأوسع حتى إن تجاوز خط الدخل المحدد.
خاتمة
ويذهب باحثون اجتماعيون إلى أن الفقر بهذا المعنى لم يعد مجرد ظاهرة اقتصادية، بل أصبح قضية ثقة بين المواطن والدولة. فكلما فشلت المؤسسات في ضمان التعليم المجاني أو الرعاية الصحية أو فرص العمل، كلما تعمّق الشعور بعدم المساواة، وازداد التوتر الاجتماعي الذي يهدد التماسك الوطني. ومن هنا، فإن التحدي لا يكمن فقط في خفض نسب الفقر، بل في إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع عبر سياسات شفافة وعدالة في توزيع الخدمات.

