حينما سألوا أديب مصر العالمى نجيب محفوظ عن رأيه فى حرب أكتوبر المجيدة.. قال: “إن 6 أكتوبر ثورة وليست معركة وحسب، فالمعركة صراع قد ينتهى بالنصر أو بغيره.. ولكن الثورة وثبة روحية تمتد فى المكان والزمان حتى تحقق الحضارة.. إنها رمز الثورة الإنسان على نفسه، وتجاوزه لواقعه، وتحديده لمخاوفه، ومواجهة لأشد قوى الشر عنفا وتسلطا.. إن روح أكتوبر لا تنطفئ.. فقد فتحت لنا طريقا بلا نهاية.. ليس العبور سوى أول قفزة فى تيار تحدياته”.
هذه هى حكمة “أديب المؤرخين ومؤرخ الأدباء”، الذى ينظر إلى الهوية المصرية بزاوية أخرى.
قبل ثلاثة عقود من الآن، تشرفت بالعمل محررا عسكريا، لأقدم للقراء نوعا فريدا من الكتابة المتخصصة، لكنها فى الوقت ذاته تحمل عمقا إنسانيا لعسكرية من أقدم وأعرق وأشرف العسكريات على مستوى العالم، وهى العسكرية المصرية الأصيلة، بتاريخها المشرف عبر العصور.
خلال السنوات التى تشرفت فيها بالعمل محررا عسكريا، شاء لى القدر أن ألتقى عددًا كبيرًا من قادة النصر وصناعه، فى حوارات مطولة وعميقة، استطعت خلالها أن أسجل شهادات وثائقية صوتية ومكتوبة – نقلت غالبيتها للقارئ فى مؤلفات وكتابات صحفية.
لم يعرف جيش مصر عبر تاريخه الطويل مرارة كتلك التى عاشها فى يونيو 1967، كانت النكسة صدمة عميقة، ليس لأنها مجرد هزيمة عسكرية، بل لأنها تركت شعورًا بالظلم فى وجدان كل جندى وضابط. الجيش لم يكن سبب الكارثة، بل كان ضحيتها الأولى، لكن المصريين ـ كعادتهم ـ حوّلوا هذه المرارة إلى دافع، وهذا الظلم إلى طاقة، فاشتعلت الصدور بالرغبة فى الثأر، ورد الكرامة، واستعادة الأرض.
ست سنوات كاملة حملت مصر فيها عبء النكسة، نصفها فى حرب استنزاف دامية لا تهدأ، ونصفها الآخر فى صمت الاستعداد، كثيرون لم يُحسنوا قراءة تلك المرحلة، وقللوا من قيمتها، لكنها فى الحقيقة كانت جدار الأساس الذى بُنى عليه نصر أكتوبر. جهد وعرق ودماء وتضحيات، كلها تراكمت لتصنع لحظة العبور. فلا نصر يأتى من فراغ.
فى حرب الاستنزاف كان الجيش يخوض معاركه بالدم، فى مواجهة يومية، واحتكاك مباشر، وتجارب أكسبت الجندى المصرى خبرة مواجهة الخوف، ثم تجاوزه إلى الثبات والإصرار على النصر، فالمقاتل يواجه أولاً خوفه الداخلى، ثم يتجاوزه بالإصرار على لقاء عدوه، وهنا يولد الإيمان بالنصر. كانت تلك الحرب مدرسة صقلت الرجال وأعدت القلوب والعقول ووجدان الأمة لمعركة التحرير.
على الضفة الشرقية من قناة السويس أقام العدو ما ظنه سدًا لا يُقهر، ساترا ترابيا شاهقا التصق بالماء، خط بارليف بمدافعه وقلاعه، ليزرع فى نفس الجندى المصرى شعور العجز واليأس، لكن المعركة لم تكن مجرد مواجهة سلاح بسلاح، بل إرادة ضد أوهام.
فى الكواليس كانت مصر تُخطط لسياسة تعزل إسرائيل وتكشف عنادها، واقتصاد يُجهّز الدولة للحرب، وتحالفات تُرتب المواقف الدولية، حتى الدعم السوفيتى الذى جاء محدودًا لم يُضعف التصميم المصرى، بل زاد الحاجة إلى الاعتماد على الذات.
وحين جاء أكتوبر، كان لا بديل عن المواجهة المباشرة واقتحام القناة وعبورها وجهاً لوجه مع التحصينات، لم تعرف الحروب من قبل عملية اقتحام بهذا الحجم والتعقيد.
كان على الجندى أن يصمد ست ساعات كاملة فى مواجهة دبابات العدو قبل أن تلحق به أسلحة الدعم الثقيلة، ومع ذلك، مضى المصريون، وأزاحوا خط بارليف، وأثبتوا للعالم أن المستحيل كلمة لا مكان لها على ضفاف القناة.
جاء السادس من أكتوبر 1973، فإذا بالمفاجأة الكبرى، إسرائيل التى طالما رددت أن جيشها لا يُقهر، فوجئت بانهيار ثقتها فى نفسها قبل أن تنهار مواقعها، جهاز مخابراتها الذى ادعى الإحاطة بكل خفايا الشرق الأوسط، انكشف أمام خطة خدعت إسرائيل وأمريكا معًا، مصر وسوريا قلبتا المعادلة فى لحظة واحدة، فاهتزت صورة إسرائيل أمام نفسها وأمام العالم.
بعد وقف إطلاق النار، لم تهدأ الصدمة داخل إسرائيل. خلال أقل من شهر وجدت حكومتها نفسها مضطرة لتشكيل لجنة تحقيق سرية تبحث فى أسباب “التقصير الجسيم”. كان ذلك اعترافًا صريحًا بأن حرب أكتوبر لم تكن معركة عابرة، بل زلزالًا استراتيجيا هز أركان كيانٍ قام على الغطرسة والوهم.
لم تكن حرب أكتوبر مجرد انتصار عسكري، بل كانت درسًا خالدًا ملخصه أن الهزيمة ليست نهاية الطريق، بل قد تكون بدايته، وأن النصر الحقيقى يولد من الألم، ومن الإصرار على تحويل الجرح إلى قوة، والمرارة إلى وقود للحياة. إنها لحظة ستبقى حيّة ما بقيت مصر، تذكّرنا بأن المستحيل يمكن أن ينكسر، وبأن الكرامة حين تُمس، لا تُسترد إلا بالدم والإرادة والنار.
اليوم.. بعد أكثر من خمسة عقود على الانتصار العظيم، لازال الدرس باقيا فى أمة تواجه تحدياتها بكل إصرار، وفى جيش رشيد يعرف قيمة الحرب وأبعادها..
حرب أكتوبر لم تكن درسا عابرا، لكنه درس يستحق الفحص والدرس كما قال قائد المعركة وبطلها محمد انور السادات..
إنه درس سيظل باقيا فى كل عصر..

