مقدمة
يقف العراق أمام مفصل قانوني–سياسي–أمني يتجاوز الجدل التقليدي حول بقاء القوات الأجنبية أو رحيلها إلى سؤال أدق: من يملك تعريف “الانسحاب”؟ الدستور واتفاقية الإطار الاستراتيجي يوفران إطاراً عاماً لتنظيم العلاقة الأمنية مع الولايات المتحدة، لكن التطبيق العملي تحكمه توازنات القوة داخل الدولة، ومقتضيات الشراكات الدولية، وحسابات الردع الإقليمي.
الاتفاق المعلن بين الحكومة والأمريكان
نص الاتفاق المعلن بين الحكومة والأمريكان عام 2024 على انسحاب مرحلي يبدأ في سبتمبر 2025 وينتهي نهاية 2026، وأُعلن حينها أنه سيُنهي الوجود العسكري الأجنبي. لكن تفاصيل الاتفاق تضمنت إنشاء علاقة استشارية جديدة قد تسمح بوجود محدود للقوات الأمريكية. هذه الثغرة لم تُثر جدلاً كبيراً وقتها، لكنها اليوم أصبحت محور الخلاف.
بيان وزارة الحرب
البيان الأمريكي الذي تلاه المتحدث باسم وزارة الحرب، شين بارنيل، لم يترك مجالاً للبس. واشنطن تقول إنها ستخفض من وجود المهمة العسكرية، معتبرة أن ذلك يمثل انتقالاً من مواجهة تنظيم داعش إلى "شراكة استراتيجية مستمرة" مع العراق. البيان شدد على المصالح الأمريكية، وعلى دعم الاقتصاد العراقي وجذب الاستثمارات، لكنه لم يشر إلى جدول زمني واضح ولا إلى خروج نهائي من الأراضي العراقية.
موقف الفصائل
تتجه الساعات المقبلة إلى بيان منسّق أو متوازٍ للفصائل العراقية يحدد مسار المرحلة التالية. توقع مصدر مقرب من الفصائل العراقية، أن الفصائل ستعقد اجتماعاً لمناقشة بيان البنتاغون الأخير والمتعلق بخفض الوجود العسكري في العراق. تشير المداولات الدستورية إلى أن الانتقال من التصريحات المتفرقة إلى بيان منهجي يعادل تحويل الموقف السياسي إلى “وثيقة مرجعية” تُبنى عليها المفاوضات وتُقاس بها مستويات الامتثال.
اجتماع للإطار
أكد عضو الإطار التنسيقي، عدي عبد الهادي، أن قوى الإطار ستعقد اجتماعاً خلال الأيام المقبلة لمناقشة بيان البنتاغون. وقال في تصريح إن "بيان وزارة الدفاع الأمريكية أوضح أن وجودها العسكري في العراق سيتم تقليصه، وهو ما سيدفع قوى الإطار إلى عقد اجتماع مهم لمناقشة هذا التطور والخروج برؤية موحدة للتعامل معه".
رؤية مغايرة
يرى الخبير العسكري اللواء المتقاعد جواد الدهلكي، أن الإعلان الأمريكي يمثل تحولاً في طبيعة العلاقة بين بغداد وواشنطن. وقال إن "إعلان وزارة الدفاع الأميركية البدء بتخفيض الوجود العسكري الأميركي في العراق، والانتقال نحو مرحلة جديدة من الشراكة الاستراتيجية، يمثل تحولاً نوعياً في طبيعة العلاقات الثنائية، وتعبيراً عن مرحلة نضوج في إدارة الملف الأمني والسياسي بين بغداد وواشنطن".
الأزمة إلى أين؟
تتقاطع هذه المطالب مع حسابات الحوكمة داخل بغداد؛ فالحكومة مطالبة بإدارة معادلة دقيقة: تثبيت مفهوم السيادة كقاعدة حاكمة للملف، والحفاظ على قنوات تعاون استخباري وعسكري لازمة لدرء تهديدات الإرهاب ومنع الفراغ الأمني، وتفادي كلفة عدم اليقين على الاستثمار الأجنبي المباشر.
الخلاصة
لا تُختَبر السيادة بالشعارات ولا تُختزل بالأعداد، بل تُقاس بمدى قدرة الدولة على تعريف الوجود الأجنبي قانونياً، وضبطه مؤسساتياً، ومراجعته زمنياً، وتحمّل مسؤولية أمنها وحدودها ومجالها الجوي بلا تفويض مضمر. إن البيان المنتظر من الفصائل يمكن أن يتحول من ورقة موقف إلى إطار ضبط إذا ما وُضع داخل مسار حكومي مُعلن ومُلزِم.

