الابتعاد التدريجي للقمر عن الأرض: قصة شراكة فلكية
المرايا الليزرية: أداة دقيقة لقياس المسافة
في سباق كوني صامت ومستمر، يبتعد القمر عن الأرض بمعدل لا يصدق ولكنه دقيق للغاية: بوصة ونصف (3.8 سنتيمترات) كل عام. وقد طور الباحثون طريقة دقيقة لقياس هذه المسافة باستخدام انعكاسات أشعة الليزر التي ترسل من محطات على الأرض لتصطدم بمرايا زرعها رواد فضاء ومسبرات فضائية على سطح القمر. من خلال قياس المدة الزمنية التي يستغرقها شعاع الليزر للسفر والعودة، يستطيع العلماء تحديد مسافة القمر وتغيرها بدقة متناهية.
السبب الجوهري وراء الانفصال التدريجي
السبب الجوهري وراء هذا الانفصال التدريجي لا يكمن في الفضاء السحيق، بل في جاذبية المحيطات وظاهرة المد والجزر. لأن تحركات جاذبية القمر لا تسحب الأرض بالكامل ككتلة واحدة، بل هي أقوى بنسبة 4% على الجانب الأقرب إلى القمر. هذا التباين يخلق تحركين مائيين ضخمين على الأرض أحدهما في الجانب المواجه للقمر (حيث الجاذبية قوية)، والآخر في الجانب البعيد (حيث تتخلف المياه عن بقية كتلة الأرض).
سباق المد والجزر: دفع القمر للأمام
مع دوران الأرض السريع، لا تلحق هذه المتحركات المائية بالقمر تماماً، بل «تتقدمه» قليلاً، تسحبها الأرض معها. هنا تكمن سر الدفع! هذا المتحرك المائي الأقرب إلى القمر لا يسحبه نحو مركز الأرض فحسب، بل يمارس عليه أيضاً قوة جذب جانبية تدفعه للأمام قليلاً في مداره، تماماً كدفعة بسيطة تعطى لسيارة مسرعة على منعطف. هذا «الجذب الأمامي» البسيط يمنح القمر تسارعاً إضافياً، وكما هو الحال في قوانين الفيزياء، فإن أي تسارع لجسم يدور يؤدي إلى زيادة حجم مداره، وبالتالي، ابتعاده عن الأرض.
تداعيات الانفصال
على الرغم من أن هذا التأثير تدريجي للغاية، إلا أن له نتيجتين حتميتين على المدى الطويل: بطء دوران الأرض لأنه بينما يبتعد القمر، تتباطأ سرعة دوران الأرض تدريجياً. والأمر الثاني يمثل نهاية الكسوف الشمسي لأنه في نهاية المطاف، سيصبح القمر بعيداً جداً لدرجة أنه لن يكون قادراً على حجب قرص الشمس بالكامل، ما سيجعل ظاهرة الكسوف الشمسي الكلي ذكرى تاريخية، وستبقى فقط الكسوفات الحلقية.
القصة بين الأرض والقمر: مفتاح لفهم النظامين
إن دراسة هذه القصة بين الأرض والقمر ليست مجرد فضول فيزيائي، بل هي مفتاح لفهم كيفية تطور النظامين على مدى مليارات السنين، وكيف يمكن لتيارات المحيطات أن تعمل كقوة كبرى في تشكيل تحركات الأجرام وتسارعها. إنها قصة مذهلة عن الشراكة، والدفع، والابتعاد، التي تكتب كلماتها في كل مد وجزر نشهده.

