أزمة البرلمان العراقي: تعطيل النصاب وتهميش الدور التشريعي
مقدمة
تؤكد التجارب الدستورية المقارنة أن البرلمان يمثل الركيزة الأساسية في أي نظام ديمقراطي، فهو السلطة التي تشرّع القوانين وتراقب أداء الحكومة وتمنح الشرعية للسياسات العامة. في العراق، عزز الدستور الدائم لسنة 2005 هذا الدور من خلال النص على أن مجلس النواب هو الجهة المختصة حصريًا بالتشريع والرقابة، وأن انعقاد جلساته يتطلب نصابًا قانونيًا محددًا لضمان مشروعية القرارات.
التوقيع دون حضور
القانون الداخلي للبرلمان العراقي يشترط اكتمال النصاب لعقد الجلسات، وهو ما يعكس الالتزام بالدستور وضرورة ضمان مشاركة حقيقية في صناعة القرار. لكن الممارسات الفعلية تناقض هذه المبادئ، حيث كشف نائب رئيس المجلس، شاخوان عبدالله، أن “130 نائبًا وقعوا لحضور جلسة اليوم لكن الحاضرين داخل القاعة هم 50 نائبًا فقط.” هذا التصريح يظهر كيف تحوّل التوقيع إلى وسيلة شكلية لإثبات الحضور من دون مشاركة فعلية، ما يؤدي إلى تعطيل النصاب ويشلّ العملية التشريعية.
النصاب القانوني
النصاب القانوني ليس رقمًا تقنيًا، بل ضمانة دستورية لجدية القرارات. غير أن التجربة العراقية بيّنت أن النصاب يُستغل كوسيلة لتعطيل التشريع. فقد أقر عبدالله أن “الحاضرين داخل القاعة هم 50 نائبًا فقط ما حال دون عقد الجلسة.” هذا السلوك يعكس كيف أصبح غياب النواب أداة بيد القوى السياسية لتعطيل قوانين حتى وإن لم تكن محل خلاف.
الانتخابات أولا.. البرلمان ثانيا
لا يمكن فصل تعطيل النصاب عن السياق الانتخابي القريب. مع اقتراب موعد الاقتراع في تشرين الثاني، ينصرف العديد من النواب إلى حملاتهم الانتخابية على حساب حضورهم التشريعي. كما أن العقوبة المقررة باستقطاع مليون دينار من راتب المتغيب لم تثبت فعاليتها. تشير بيانات رقابية إلى أن بعض الكتل ترى في تعطيل الجلسات أداة سياسية تفاوضية، ما يجعل البرلمان أداة ضمن لعبة انتخابية أوسع بدل أن يكون مؤسسة محايدة تعمل لخدمة المواطنين.
الأزمة لا تتعلق فقط بإهمال أو انشغال انتخابي
الأزمة لا تتعلق فقط بإهمال أو انشغال انتخابي، بل تكشف عن توجه سياسي أعمق لتقليص دور البرلمان. فحين يؤكد عبدالله أن “الحاضرين داخل القاعة هم 50 نائبًا فقط ما حال دون عقد الجلسة”، يتضح أن المسألة تتجاوز حالات فردية إلى سلوك جماعي متكرر. بحسب قراءات مؤسسية، هذا التعطيل يخدم أطرافًا تسعى لإضعاف المجلس عمدًا وإظهاره عاجزًا أمام الرأي العام، لضمان أن يظل القرار السياسي محصورًا بالسلطة التنفيذية أو بمراكز قوى خارجية.
تعمد تهميش الدور التشريعي
الأزمة البرلمانية في العراق لم تعد عرضية، بل هي نتاج بيئة سياسية تتعمد تهميش الدور التشريعي. التوقيع الشكلي، غياب النصاب، وتأجيل القوانين غير الخلافية كلها مؤشرات على مؤسسة تفقد تدريجيًا قدرتها على القيام بوظيفتها. المعالجة تتطلب أدوات أكثر جدية: ربط التوقيع بالحضور الفعلي، نشر قوائم الحضور والغياب للعلن، وتفعيل المساءلة حتى حد إسقاط العضوية عند التكرار. من دون هذه الخطوات، سيبقى البرلمان أسيرًا لتعطيل ممنهج، وتبقى مصالح المواطنين رهينة لصراع سياسي لا يعترف بسلطة الدستور ولا بوزن المؤسسة التشريعية.

