تثير قضية الشركات الاستشارية الدولية جدلاً واسعاً في السعودية ومنطقة الخليج، حيث تُتَّهم هذه الشركات أحياناً بأنها مجرد أداة لإضفاء شرعية ظاهرية على قرارات تم اتخاذها مسبقاً، وأنها تُقدم حلولاً جاهزة لا تراعي الواقع المحلي، ما يؤدي إلى تقويض الثقة في القرارات التنموية. وتتصاعد هذه الانتقادات في أوساط الإعلام وداخل المجالس، ما يجعل النقاش حولها شديد التسييس في بعض الأحيان.
من الضروري هنا توضيح ما نعنيه بالتسييس في صناعة القرارات التنموية. فـ«التسييس» هو عملية واعية للتدخل في معالجة ونقاش القضايا التنموية في صورة رؤى موضوعية ولكنَّها في الواقع ذات تفضيلات سياسية وتوجهات فكرية (ومصالح شخصية أحياناً). وكما يقول علماء السياسات ومنظروها إن التسييس بهذا المفهوم ليس أمراً يمكن تجنبه بالكامل؛ فصانع السياسة (وناقدها كذلك) لا يمكنه أن يتحرر تماماً من قناعاته الشخصية أو توجهاته الفكرية أو تفضيلاته الخاصة. هذه الاعتبارات جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية، وبالتالي فهي حاضرة دائماً في عمليات صنع القرار. إلا أن الخطر الحقيقي يكمن حين تطغى هذه الاعتبارات على الأدلة العلمية والبراهين الموضوعية، أو حين تُستخدم هذه الأدلة بشكل انتقائي لإضفاء مظهر موضوعي على قرارات تعكس في حقيقتها تفضيلات شخصية أو فئوية ضيقة. من هنا، تبرز أهمية إدارة هذه الاعتبارات بحكمة لضمان ألا تُفرغ العملية من موضوعيتها ودقتها.
ويقدم لنا التاريخ أمثلة بارزة توضح تداعيات التسييس المفرط للقرارات، فمشروع «القفزة الكبرى إلى الأمام» في الصين تسبب في أزمة اقتصادية وإنسانية نتيجة اتخاذ قرارات دون الاستناد إلى أدلة واقعية كافية، أو من خلال تجاهلها سعياً وراء تطلعات غير عملية. كذلك أزمة التعامل مع إعصار كاترينا في الولايات المتحدة الأميركية، التي أدت فيها الاعتبارات السياسية إلى تأخر الاستجابة، ما زاد من تفاقم الأزمة الإنسانية. وتُظهر الأزمات المالية في الأرجنتين واليونان كيف أن السياسات المبنية على شعبوية سياسية لا تستند إلى حقائق اقتصادية موضوعية أدت إلى نتائج سلبية طويلة الأمد.
إذا عدنا الآن إلى قضية الشركات الاستشارية، نجد أن الواقع الحالي في السوق السعودية يختلف بشكل كبير عن الصورة السلبية التي تُطرح في النقاشات المُسيَّسة. فقد شهد هذا القطاع في السنوات الأخيرة تحولات كبيرة باتجاه التوطين والمشاركة المحلية الواسعة، حيث باتت الشركات العالمية توظف أعداداً متزايدة من الكفاءات السعودية في مختلف المستويات الإدارية والتنفيذية. إضافة إلى ذلك، نمت شركات استشارية سعودية رائدة، مثل «تام» و«إتمام»، وتم إدراجهما بسبب تميزهما الإداري وقوتهما المالية في السوق المالية الموازية (نمو)، ما يعكس عموماً نضج السوق المحلية وكفاءتها. كما شهد القطاع عمليات مهمة من الشراكة والاستحواذ بين مؤسسات وطنية رائدة وكبرى شركات الاستشارات الدولية، مثل استحواذ «ماكنزي» على «إلكسير» واندماج «إمكان التعليمية» تحت مظلة «بي دبليو سي»، ما يعكس تكاملاً بين الخبرات العالمية والمحلية، ويعزز القيمة المضافة لهذه الشركات في صناعة القرار.
وفي ضوء المعطيات السابقة، فإنه يتضح أن دعاوى الاختراق الأجنبي واستنساخ الحلول والممارسات الدولية وعدم مواءمة السياسات المقترحة مع بيئات العمل الوطنية لا تعكس بالضرورة طبيعة العمل القائم، بقدر ما تداري توجهات أخرى، قد تكون لها علاقة بامتعاض البعض، جراء عدم مشاركتهم في صناعة هذه السياسات وتوجيهها، أو استمرار لممارسات سابقة في الاحتجاج والتشكيك في التوجهات التنموية، ولكن بلهجة جديدة تبدو أكثر وطنية، أو مجرد ترديد لبعض القصص والنوادر هنا وهناك عن حوادث سابقة صاحبت إطلاق بعض المبادرات الكبرى وما تطلبته من حضور ومشاركة الشركات الاستشارية في تطوير خطط تلك المبادرات واستراتيجياتها.
لذلك، فإنه من الضروري العمل على تحييد التصورات المسبقة، والتعامل بشكل منهجي مع القضايا محل النقاش. وفيما يخص منظومة دعم صناعة القرار في القطاعين العام والخاص، فإن التوظيف الجيد لكل المعطيات والخبرات (محلياً ودولياً) هو الخيار الأمثل لتطوير ومراجعة سياساتنا التنموية ومناقشاتنا حولها. ولتحقيق هذا الهدف، نقترح مجموعة من الاستراتيجيات العملية…
أولاً، تعزيز دور مراكز الفكر (ثينك تانس) ومؤسسات بحوث السياسات المستقلة (بولوسي ريسيرش سينتر) مثل مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية (كابسارك)، لتوفير تحليلات دقيقة ومستقلة. وتكمن ميزة هذه المؤسسات في قدرتها على تقديم أدلة علمية وموضوعية تُسهم في تقليل الانحياز السياسي وتعزيز جودة القرارات.
ثانياً، اعتماد آليات داعمة للمشاركة المجتمعية ومساهمة المهتمين وأصحاب المصلحة في عمليات صناعة القرار. وتتمثل أهمية هذه الآليات في ضمان تمثيل وجهات نظر متنوعة وتعزيز الثقة والقبول المجتمعي للسياسات، ما يقلل من احتمالية رفضها أو تشويهها لأسباب سياسية.
ثالثاً، تطوير آليات العمل والتفاعل مع الشركات الاستشارية بجميع أشكالها، من خلال دعم وتعزيز الحضور الوطني في هذه السوق الحيوية المهمة. ومن الضروري مراجعة توصيات هذه الشركات ودراساتها بصرامة وموضوعية في ضوء الأدلة والبراهين العلمية، بعيداً عن أي حساسيات فكرية أو تحيزات خاصة، لضمان استثمار حقيقي في القدرات والخبرات التي تقدمها هذه الشركات في تعزيز صناعة القرار التنموي.
رابعاً، الاستثمار الجاد في بناء القدرات الوطنية عبر برامج تدريبية وتعليمية متخصصة في تحليل السياسات والإدارة العامة. وتتمثل أهمية هذه البرامج في توفير كفاءات وطنية قادرة على صياغة وتحليل السياسات بشكل علمي وموضوعي.
خامساً، تعزيز دور الجامعات المحلية في تحويل الأبحاث الأكاديمية إلى توصيات عملية تخدم صناع القرار، وتدريب العلماء والباحثين على صناعة منتجات تلخص مخرجات البحث العلمي بلغة غير تخصصية، متخففة من حدية المصطلحات العلمية، وموجهة لصانع السياسات والقارئ المهتم.
وبغضّ النظر عن مثال الشركات الاستشارية، فإن التحدي الحقيقي ليس في إلغاء أشكال التسييس (التوجهات والتفضيلات الشخصية والفكرية والسياسية لصانع السياسات أو ناقدها) من صناعة السياسات، بل في طرحها بشفافية ومناقشتها بصراحة، وإدارتها بشكل حكيم يضمن التوازن بين هذه الاعتبارات وبين المعايير العلمية والموضوعية، وهو ما نحتاجه بشدة لضمان استدامة السياسات وفاعليتها بشكل عام.

