اكتب مقالاً عن
لا تبدو مهمة سكرتير مجلس الأمن القومي الأوكراني رستم عمروف سهلة. إنه يجلس على رأس وفد أوكراني ليفاوض الجانب الروسي على شروط وقف القتال، وهو يدرك جيداً أنه قد يكون مضطراً في مرحلة معينة من النقاشات لتقديم تنازلات مؤلمة. ليس بالمعنى السياسي فقط، بل على الصعيد الشخصي المباشر. من كان يتوقع قبل سنوات قليلة فقط أن الناشط والمدافع الصلب عن حقوق تتار القرم، والذي غدا أحد أبرز «الصقور» في مطبخ السياسة الأوكراني، ولعب أدواراً مهمة للغاية في مواجهة سياسات الكرملين، سيقود يوماً ما أصعب معركة في حياته، وأن يتفاوض على شروط إغلاق ملف ضم شبه الجزيرة إلى روسيا، والقبول بالأمر الواقع الجديد؟
قد تكون هذه معركة رستم عمروف الأخيرة. وهو يخوضها ممثلاً عن أوكرانيا كلها التي تضع على طاولة المفاوضات، داخل قاعة القصر الرئاسي الفاخر في إسطنبول، 20 في المائة من أراضيها، وجزءاً كبيراً من سيادتها ومستقبلها الوطني. وهو أيضاً يحمل في الوقت ذاته، مع أوراقه التفاوضية، تاريخاً كاملاً من تقلبات سياسية واجتماعية كبرى عاشها تتار القرم؛ السكان الأصليون في شبه الجزيرة التي تحوّل مصيرها لسنوات طويلة مقبلة إلى ملف تفاوضي.
محطات حياة عمروف
أمور كثيرة شغلت حيزاً أساسياً من محطات حياة عمروف الذي عاش طفولته يعاني مع عائلته سياسة التهجير القسري لتتار القرم في عام 1944، ونشأ في شبابه على مشاعر الخوف من طموحات الكرملين التوسعية في البلد الجار. أمضى عمروف الجزء الأعظم من حياته محارباً الوجود الروسي في القرم، ومتمسكاً بسياسة «إنهاء آثار العدوان»، وإعادة شبه الجزيرة إلى السيادة الأوكرانية، مع عودة ممثلي تتار القرم؛ السكان الأصليين للمنطقة، إلى تقرير مصيرهم بأنفسهم. وها هو يفاوض على صفقة تقضي بإنهاء القتال مقابل التنازل عن الأراضي.
وُلد عمروف في مدينة سمرقند التاريخية في أوزبكستان. وكان والداه وصلا إليها في إطار رحلة التهجير القسري بالقطارات المصفّحة، حيث نُقل الجزء الأعظم من تتار القرم إلى جمهوريات آسيا الوسطى إثر اتهام الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين لهم بأنهم «تآمروا مع جيوش هتلر». وهي التهمة نفسها التي كانت سبباً في تهجير جزء كبير من الشيشانيين أيضاً من أراضيهم في تلك الحقبة. ولكن، في بداية تسعينات القرن الماضي، عاد عمروف إلى القرم طفلاً، عندما سمحت التطورات بعودة السكان الأصليين إلى مناطقهم. وكان لمكانة عائلته التاريخية في بلدة الوشتا، ولأنها كانت عائلة ميسورة الحال، الفضل في أنه تخرج في مدرسة القرم الداخلية للأطفال الموهوبين، وهذه المدرسة كانت جزءاً من الشبكة التعليمية للداعية التركي فتح الله غولن.
وبعد تخرّجه، أكمل تدريباً في الولايات المتحدة ضمن برنامج تبادل القادة المستقبليين الذي تنفذه وزارة الخارجية الأميركية، ثم بعد عودته إلى أوكرانيا، تخرج في قسم الاقتصاد في الأكاديمية الوطنية للإدارة، وتخصّص في التمويل والائتمان.
نشاط سياسي مبكّر
بدأ رستم عمروف حياته المهنية في مجال الاتصالات، وتحوّل إلى رجل أعمال بارز في هذا القطاع. لكن هاجسه الأساسي برز في نشاطه السياسي المبكّر، وكان من بين مؤسسي منظمة «مجتمع تتار القرم» التي ركّزت على تطوير التمثيلات الإقليمية لتتار القرم في أوكرانيا.
وعام 2007، أصبح أيضاً أحد مؤسسي منظمة الشباب لمجلس شعب تتار القرم «بيزيم كيريم». وبين عامَي 2011 و2013، كان أحد المؤسسين ورئيس صندوق تنمية شبه جزيرة القرم الذي شارك على وجه الخصوص في تنظيم الاجتماعات الدولية لزعيم المجلس، مصطفى جميليف، الشخصية الأبرز التي واجهت التوغل الروسي وقرارات الضم لاحقاً.
وبالفعل، برز اسم رستم عمروف سريعاً كأحد قادة مجتمع تتار القرم، وغدا لاحقاً نائباً في البرلمان الأوكراني عن حزب «غولوس» (الصوت). ومنذ عام 2014، لعب عمروف أدواراً بارزة، وكان أميناً لمجلس تبادل السجناء السياسيين من شبه جزيرة القرم.
وفي البرلمان، صار أميناً للجنة البرلمان الأوكراني المعنية بحقوق الإنسان و«إنهاء الاحتلال وإعادة دمج الأراضي المحتلة مؤقتاً في منطقتَي دونيتسك ولوغانسك، وجمهورية القرم المتمتعة بالحكم الذاتي، ومدينة سيفاستوبول، والأقليات القومية والعلاقات بين الأعراق». وكذلك كان عضواً في الوفد الدائم لدى مجلس أوروبا.
وفي يوليو (تموز) 2022، ترأس اللجنة الخاصة المؤقتة في البرلمان المعنية بمراقبة تسلم واستخدام المساعدات المادية والتقنية الدولية أثناء الأحكام العرفية. وكان قبلها، عام 2020، قد انضم إلى مجموعة العمل التابعة لمجلس الأمن القومي والدفاع في أوكرانيا لتطوير «استراتيجية إنهاء احتلال شبه جزيرة القرم». وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه ساهم في إطلاق «مبادرة منصة القرم» التي وفّرت مظلة دولية للتذكير وممارسة الضغوط لإنهاء الوجود الروسي في المنطقة.
دوره في الحرب
أثناء الحرب الروسية – الأوكرانية، لعب عمروف دوراً مهماً في محطات حساسة؛ فهو كان ضمن الوفد الأوكراني في عدة مراحل من المفاوضات مع الاتحاد الروسي. وشارك في مفاوضات لتبادل الأسرى، ثم شارك في مفاوضات إسطنبول عام 2022 لإقرار صفقة الحبوب. وفي تلك المرحلة كاد يتعرض لمحاولة اغتيال بالسم، وفق تأكيد مصادر أوكرانية ذكرت أنه ظهرت على عمروف علامات تسمّم بمادة مجهولة بعد لقاء مع رجل أعمال مقرّب من الكرملين.
وشغل أول منصب حكومي رفيع في صيف عام 2022 عندما عُيّن رئيساً لصندوق ممتلكات الدولة في أوكرانيا، ونجح في هذه المهمة في محاربة الفساد، واعتُبر من السياسيين القليلين في أوكرانيا الذين لم ترتبط أسماؤهم بملفات فساد.
وعام 2023 رافق القيادة الأوكرانية في رحلات عمل إلى عدة بلدان، بينها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وكان لوجوده أهمية؛ لكونه يمثل تتار القرم. وحينذاك كتبت صحف أوكرانية أن رستم عمروف يحظى بعلاقات جيدة في المنطقة، خصوصاً مع السعودية وتركيا.
وفي الرياض، تحديداً، عقد عمروف أول جولة تفاوضية صعبة في مارس (آذار) 2025 مع المبعوثين الأميركيين. ومع أنه لم تُنقل تفاصيل كثيرة عن مضمون مباحثات الجولة، فقد أبدى عمروف ارتياحاً لـ«النقاش المثمر» حول إنهاء الحرب؛ إذ قال عبر الشبكات الاجتماعية: «اختتمنا اجتماعنا مع الفريق الأميركي. كان النقاش مثمراً ومركزاً، وأثرنا نقاطاً رئيسية بينها الطاقة»، مضيفاً أن أوكرانيا تعمل على جعل هدفها المتمثل في «سلام عادل ومستدام، حقيقة». ولكن خلف عباراته المتفائلة كان هناك شعور مرير بخيبة الأمل؛ إذ كانت تلك أولى مهامه الصعبة للغاية في بحث تسوية مؤلمة سيكون عليه بعدها الإقرار بأن التنازل عن شبه جزيرة القرم سيكون ثمناً للسلام الموعود.
جاء ذلك بعد مرور سنتين على تعيين عمروف وزيراً للدفاع، ليصبح أول وزير مسلم في أوكرانيا، وأول وزير من تتار القرم في هذا البلد. وعُدّ تعيينه رسالة سياسية من جانب كييف بأنه لا تنازل عن القرم وعن ملكيتها لسكانها التتار في أي مفاوضات مقبلة. لكن الأمنيات التي حملها قرار تعيينه قد لا تجد تطبيقاً على الأرض؛ إذ إنه خاض لاحقاً جولتَي مفاوضات في إسطنبول مع الجانب الروسي الذي كان أبرز شروطه التفاوضية الإقرار بسيادة موسكو، ليس فقط على شبه الجزيرة، بل على مقاطعات أربع ضمتها موسكو إلى أراضيها بشكل أحادي عام 2023 هي: دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوروجيا.
وقبل أيام قليلة عاد عمروف مجدداً إلى طاولة المفاوضات رئيساً لوفد بلاده في جولة ثالثة،ليس بصفته وزيراً للدفاع هذه المرة، بل كأول رئيس لمجلس الأمن القومي في أوكرانيا من تتار القرم.
باللغة العربية لتسهيل قراءته. حدّد المحتوى باستخدام عناوين أو عناوين فرعية مناسبة (h1، h2، h3، h4، h5، h6) واجعله فريدًا. احذف العنوان. يجب أن يكون المقال فريدًا فقط، ولا أريد إضافة أي معلومات إضافية أو نص جاهز، مثل: “هذه المقالة عبارة عن إعادة صياغة”: أو “هذا المحتوى عبارة عن إعادة صياغة”:

