مهرجان البندقية السينمائي
للعام الثاني على التوالي يفتتح مهرجان البندقية السينمائي بفيلم لمخرج مكسيكي من إنتاج أمريكي.
وإذا كان عرض فيلم “جاذبية” للمخرج الفونسو كوارون في الموسترا فاتحة نجاحات متعددة حققها في مهرجانات السينما ونيل جوائزها، إذ حصد العديد منها (من بينها 7 أوسكار و6 جوائز بافتا)، فإن النجاح لا يمكن أن يكون وصفة مكررة.
وكان لافتتاح الدورة 71 من المهرجان بفيلم المخرج اليخاندرو غونزاليس اينارتو “بيردمان”ـ رجل طائر، طعم المطبخ المكسيكي اللاذع على شاطئ البندقية الساحر.
فهو عمل حرص مخرجه على أن يكون مبهرا واشكاليا في موضوعه وفي بنائه الفني بل واستعاراته وأسسه الجمالية النظرية، لكنه اختنق بكل ذلك وبدا مزدحما بتلك التفاصيل مفرطا في عرضها حتى بات أقرب إلى السقوط في ما ينتقده، عبر سخريته السوداء، من واقع التسطيح الذي تفرضه أنماط الثقافة الشعبية وتعممه وسائل الاتصال على عالمنا المعاصر.
واقعية قذرة
صدر الصورة، EPA
التعليق على الصورة، سحرنا أداء ادوارد نورتن (كما سحر مايك ريغان في الفيلم) منذ المشهد الأول لظهوره في الفيلم.
و حاول اينارتو ترسم أسلوب ما عرف بأدب “الواقعية القذرة” في الأدب الأمريكي، وعكسه سينمائيا، فانطلق في بناء فيلمه من اقتباس عن أحد أقطاب هذه الحركة الأدبية، الشاعر والقاص ريموند كارفر(1936 ـ 1988) (وله بالعربية مجموعة قصصية مترجمة منتصف الثمانينيات)، وتحديدا قصته القصيرة “عم نتحدث عندما نتحدث عن الحب؟”، فبدا اقتباسه حرا لأجواء القصة التي نقلها إلى فضاء مسرحي، وحرص على أن يأخذ روح أسلوب كارفر، ليمسك مبضع جراح ويفكك كل الاستار التي تحوط بطله وليفكك مركبات شخصيته الرئيسية النفسية ودوافعها، من دون أوهام أو عظات أخلاقية، بل في مناخ من السخرية المرة منها.
افتتح إينارتو فيلمه بقصيدة شهيرة لكارفر، نقشت على شاهدة قبرة تقول ما معناه “ومع ذلك، هل حصلت على ما تريد من هذه الحياة؟ أجل فعلت. وماذا أردت؟ أن أدعو نفسي محبوبا، وأن أشعر بنفسي محبوبا في هذه الأرض”.
عن الأدوار التي نؤديها في الحياة وفي الفن كان فيلم “بيردمان” الذي حمل عنوانا ثانويا هو “فضيلة الجهل غير المتوقعة”، من هنا كان اختيار اينارتو لأزمة ممثل يدعى ريغان تومبسون (الممثل مايكل كيتون) اشتهر بشخصية نمطية مأخوذة من مجلات الكوميكس والثقافة الشعبية، يحاول معالجة شهرته التي أخذت تخبو واستعادة مجده، فضلا عن الخروج من النمط التمثيلي الذي حصرته الثقافة الشعبية فيه ولا يستطيع النقاد رؤيته خارجه، بتقديم عرض مسرحي في مسارح برودواي مأخوذ عن قصة كارفر.
يوفر هذا مدخلا لتقديم التداخل بين الفن والحياة، فيزواج بين أدوار ريغان في الفن وأدواره التي يؤديها في الحياة.
وفي زحمة من تفاصيل الحياة اليومية نتابع رحلة ريغان في البحث عن نفسه وسط ركام ثقافة الاستهلاك، بيد أنه حتى هذا البحث (الوجودي) نراه يظل محكوما بهذه الثقافة، فنرى في ريغان خلطة غريبة من مبالغات الكوميكس والثقافة الشعبية واستعارات من الفن والتفكير الجمالي (العالي).
ونرى ريغان محاطا بشخصيات أخرى، أمثال ابنته سام (ايما ستون) التي تعاني من مشكلة إدمان والخارجة من تجربة علاج، والتي تمثل أيضا وعي جيل آخر غير جيل ريغان ومايك من بعده وامها، زوجته السابقة، والمنتج المسرحي وصديقه القديم (زاك غاليفياناكس)، وممثلة شابة (أندريا ريسبورو) تطمح بإقامة علاقة عاطفية معه.
تنافس أدائي
ولا يبدو اختيار الممثل مايكل كيتون لأداء هذا الدور بعيدا عن طبيعة حياته الشخصية في الفن وتشابهها في كثير من الجوانب مع شخصية ريغان التي يؤديها، فهو ممثل ظل محاصرا بالنمط الأدائي في أفلام التسلية التي مثلها، وظل الجمهور يذكره عبر أدائه لشخصية “الرجل الوطواط” المستعارة من مجلات الكوميكس التي طغت على أعماله الأخرى.
ونرى ريغان محاطا بشخصيات أخرى، أمثال ابنته سام (ايما ستون) التي تعاني من مشكلة إدمان والخارجة من تجربة علاج، والتي تمثل أيضا وعي جيل آخر غير جيل ريغان ومايك من بعده وامها، زوجته السابقة، والمنتج المسرحي وصديقه القديم (زاك غاليفياناكس)، وممثلة شابة (أندريا ريسبورو) تطمح بإقامة علاقة عاطفية معه.
وفي سعيه لانجاح مسرحيته يختار ريغان ممثلا متدفقا في مشاعره ابنا للحياة، فوضويا، وساعيا وراء غرائزة، لا يتواني عن محاولة اغتصاب الممثلة التي يمثل معها مشهدا في السرير أمام جمهور المسرح، فمايك (يؤدي دوره الممثل ادوارد نورتن) يستبدل به ممثل سابق في المسرحية لكنه يحاول أن يسرق الأضواء بحضوره وبأدائه المميز من ريغان.
وهذا ما تحقق بالفعل في الفيلم إذ استطاع نورتن بحضوره المؤثر وادائه الرائع أن يسرق الأضواء من كيتون في الفيلم نفسه، فقدم أبرز أداء تمثيلي في هذا الفيلم الحافل بالممثلين.
لقد سحرنا نورتن (كما سحر مايك ريغان في الفيلم) منذ المشهد الأول لظهوره في الفيلم الذي قدم فيه درسا في التمثيل والانتقال بين مشاعر متناقضة بسرعة شديدة وببراعة تجعلك تظن انه يؤدي بتلقائية شديدة دون دربة أو صنعة.
وبعد سلسة من المواقف والانفعالات والخيبات، الذي يجمع بينها أنها ظلت تحمل طابع المبالغة في الانفعال وفي الغرابة، وتقف على حافة الميلودراما، وما ينقذها من السقوط فيه هو تلك السخرية السوداء التي طبعت الفيلم، نصل إلى الذروة مع المشهد الذي يواجه ريغان فيه امرأته مع شخص آخر في المسرحية فيقول لهم إنه غير محبوب وانه وجوده في هذه الحياة كان لا شيء لينتحر في ختام المسرحية، المشهد الذي كرره المخرج كثيرا بمسدس لعبه، لكنه في المرة الأخيرة يستخدم مسدسا حقيقيا.
وبدلا من موت ريغان، يواصل اينارتو سخريته ومبالغاته، لنفاجئ أنه في المستشفى وأن الإطلاقة لم تصب سوى أنفه، ومع دخول ابنته بالورد الذي يحبه وذهابها لجلب مزهرية لوضعه فيها، تعود فلا تراه في فراشه والنافذة مفتوحة على مصراعيها.
العلاقة بين الفنون
ويستثمر اينارتو ذلك ليبني مشهديته في إطار العلاقة بين الف
