شهدت مدينة طرابلس الليبية حدثاً استثنائياً بمناسبة إعادة افتتاح المتحف الوطني، حيث ترددت أصوات الألعاب النارية في مايعرف بـ “ساحة الشهداء” في قلب العاصمة. هذه المرة، لم يكن السبب صراع ميليشيات على النفوذ في قطاع النفط، بل احتفالاً كبيراً بإعادة الحياة إلى أحد أرقى المتاحف في البحر الأبيض المتوسط.
المتحف الوطني الليبي، الواقع داخل مجمع القلعة الحمراء التاريخية “السرايا الحمراء”، يضم أكبر مجموعة من الآثار الكلاسيكية في أفريقيا، و ظل المتحف مغلقاً لما يقارب 14 عاماً بسبب الحرب الأهلية التي أعقبت سقوط معمر القذافي.
حفل إعادة الافتتاح جمع تاريخ ليبيا الغني في عرض فاخر حضره دبلوماسيون وشخصيات عربية بارزة، وشمل أوركسترا إيطالية كاملة، واستعراضات بهلوانية، ورقص، وأقواساً من النار، وأضواءً مسلطة على أسوار القلعة، وصولاً إلى وصول سفينة شراعية عثمانية ضخمة مرتفعة فوق الميناء في مشهد مهيب استقبلته امرأة ليبية بدت وكأنها ملاك.
تاريخ ليبيا في أربعة طوابق
رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها من الأمم المتحدة، عبد الحميد الدبيبة، قاد الحفل بطرقه الأبواب الخشبية الضخمة للمتحف عبر عصا غليظة، لتندفع الحشود إلى الداخل.
داخل المتحف، تكشفت أمام الزوار صفحات تاريخ ليبيا، من الحضارات اليونانية والرومانية إلى العثمانية والإيطالية.
ويضم أحد طوابق المتحف الأربعة رسوما كهفية تضاهي روعة لاسكو، ومومياوات عمرها 5 آلاف عام من مستوطنات أوان محوجياج القديمة في أقصى جنوب ليبيا، وألواحاً مكتوبة بالأبجدية البونية، وكنوزا لا تحصى من مدينتي لبدة الكبرى وصبراتة الرومانيتين الساحليتين اللتين لم يزرهما الكثيرون بعد، بما في ذلك فسيفساء ونقوش وتماثيل آسرة لشخصيات عامة عظيمة وآلهة.
وقد عكس افتتاح المتحف أيضا بعض الخسائر التي ارتبطت بانهيار نظام القذافي، وأبرزها اختفاء سيارة “فولكس فاغن بيتل” الفيروزية الخاصة بالقذافي، التي كانت تحتل مكانة مرموقة في المجموعة.
حماية التراث الليبي
الدكتور مصطفى ترجمان، رئيس قسم الآثار السابق، تحدث عن التحديات التي واجهها في حماية آثار المتحف، وأوضح أنه جرى نقل كل المعروضات إلى مخابئ سرية لحمايتها من السرقة والتهريب، وأن إعادة افتتاح المتحف كانت خطوة محفوفة بالتردد بعد استرجاع التحف من أماكن الإخفاء.
وقال ترجمان: “المتحف يظهر للناس ما كانت عليه ليبيا، منطقة تتمتع بثقة ثقافية واقتصادية، ومتّصلة بالعالم. نحن جزء من البحر المتوسط.”
وأضاف أن المتحف يشكل فرصة لتقريب شرق وغرب البلاد، حيث يمكن لكل زائر رؤية تراث المناطق الأخرى، ما يعزز الوحدة الوطنية.
يأمل ترجمان أن يُسهم المتحف في تثقيف الليبيين بعد التشويه الذي شاب التعليم في عهد القذافي، وقد خُصصت الأسابيع الأولى من افتتاح المتحف لاستقبال طلاب المدارس. وقال: “الأهم هو تنمية العقل، وتعليم احترام الزمن والتاريخ، واحترام الآخرين، والانخراط في العالم، علينا بناء العقول… لقد درس جيلي فلسفة الإغريق كجزء من تراثنا، لكن هذا توقف” وتابع ترجمان “ليبيا منطقة نائية قاحلة في كثير من الأحيان، لكننا حافظنا على هذا التراث، وهذا دليل على قوة إرادتنا”.
تحديات إعادة بناء ليبيا
رغم النجاح الرمزي للمتحف، لا تزال ليبيا تواجه تحديات كبيرة، أهمها أن جواز السفر الليبي لا يتيح السفر إلى الكثير من الدول، وما زالت البلاد تحتل مراتب منخفضة في مؤشرات حرية الصحافة ومكافحة الفساد، ففي ليلة الافتتاح، قُتل أحمد الدباشي مهرب مشهور للبشر، خلال تبادل لإطلاق النار مع قوات الأمن في صبراتة، بينما نصحت أستراليا مواطنيها بعدم السفر إلى البلاد.
الدبيبة تحدث بصراحة عن إخفاقات حكومته، بما في ذلك توقيف ثلاثة من وزرائه في تحقيقات فساد، وأقر بأن اعتماد البلاد على النفط أدى إلى وجود 2.5 مليون موظف حكومي، أي نحو ثلث السكان، وأوضح أن الدعم المشوه يجعل البنزين أرخص من الماء، ما يفتح الباب للتهريب الذي تبدو أجهزة الرقابة عاجزة عن منعه.
عندما سُئل عن سبب استمرار المؤسسات الموازية بين شرق وغرب البلاد منذ انتفاضة 2014، ألقى الدبيبة اللوم على السياسيين وليس على الشعب.
ومن الجدير ذكره أن الدبيبة لم يُنتخب ، بل تولى منصب رئيس الوزراء في 2021 ضمن عملية تحت إشراف الأمم المتحدة، وكان من المفترض أن يبقى في منصبه حتى إجراء انتخابات عامة، لكن التنافس بين النخب في الشرق والغرب يعيق هذا المسار.
وتعمل بعثة الأمم المتحدة على “حوار منظم” لمصالحة البلاد قبل الانتخابات المحتملة، لكن الدبيبة يرفض إجراء التصويت قبل استفتاء على دستور جديد. كما قال مسؤول ليبي: “الليبيون لا يعرفون شيئًا عن السياسة، القذافي منع ذلك.”
نجوم عرب في المتحف
كان من أوائل زوار المتحف الفنان والمقدّم المصري باسم يوسف، الذي يمتلك ملايين المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأوضح أنه اضطر لإقناع زوجته بأن زيارة ليبيا آمنة، مشيراً إلى أن ليبيا تظهر في الأخبار فقط عند وقوع أزمات، وأن الصورة الإعلامية غالباً ما تكون مشوهة، وقال: “صورة أي بلد أو مجتمع لا علاقة لها بالواقع على الأرض، بل بالعدسة التي يرى من خلالها المرء الواقع، للأسف، هذه العدسة مكسورة ومشوهة.”
