حزمة الدماء الجديدة: محاولة لتفادي انفجار الخلافات التقليدية في العراق
بعد قرار المحكمة الاتحادية، تحولت الأنظار إلى ما يجري خلف الستار من مفاوضات تسعى لترسيم ملامح السلطة القادمة وسط حالة عدم يقين متصاعدة. في إطار الحسابات المتشابكة يبرز تعبير جديد دخل القاموس السياسي العراقي هو “حزمة الدماء الجديدة”، الذي استخدمه النائب السابق فوزي اكرم لوصف احتمال لجوء القوى السياسية الى خيار تبديل شامل في الرئاسات الثلاث.
حوارات تشكيل الحكومة المقبلة
يقول اكرم إن حوارات تشكيل الحكومة المقبلة بدأت فعليا منذ مطلع الأسبوع، وان وتيرتها تتصاعد عبر سلسلة لقاءات داخل الاطار التنسيقي ومع قوى أخرى. لكن المضمون الحقيقي لهذه الحوارات لا يتعلق فقط باسم رئيس الوزراء المقبل، بل بشكل الصفقة الكاملة التي سترسم طبيعة “الحزمة” التي يريدها اللاعبون الاساسيون.
فكرة مرشح التسوية
فكرة “مرشح التسوية” ليست جديدة على التجربة العراقية، لكنها هذه المرة تأتي محمولة على احتمالين متوازيين: اما إعادة تدوير شخصية من “الجيل القديم” تحظى بقدر من القبول المتبادل بين الفرقاء، او الذهاب نحو “حزمة دماء جديدة” تشمل رئاسة الوزراء والجمهورية والبرلمان دفعة واحدة، باسم التغيير وتخفيف حدة الاستقطاب.
الوضع الراهن
في خلفية هذا النقاش تقف ازمة مركبة ولدها قرار المحكمة الاتحادية، الذي جرد الحكومة من صلاحيات الاقتراض والتعاقد وإدارة الملف المالي بصورة كاملة، وترك البلاد في حالة “حياد قسري” بانتظار ولادة حكومة جديدة. هذا الوضع رفع تكلفة الوقت على القوى السياسية؛ فكل أسبوع يمر من دون اتفاق على رئيس وزراء جديد يعني مزيدا من الضبابية في رواتب الموظفين، والاستثمار، والتزامات الدولة الداخلية والخارجية، ويزيد من احتمالات انفلات الغضب الشعبي في الشارع.
حزمة الدماء الجديدة: مخرج سريع من عنق الزجاجة
في كواليس بعض القوى، تتبلور فكرة مفادها ان توزيع الحصص التقليدي على وجوه مجربة ومستهلكة لم يعد قادرا على انتاج معادلة حكم قابلة للاستمرار. هناك تنافس صامت على أسماء سبق ان طُرحت في دورات سابقة او شغلت مواقع تنفيذية ونيابية، لكن في المقابل يظهر تيار داخل بعض القوى يدفع نحو خيار يقوم على “تصفير” القائمة ودفع أسماء جديدة بالكامل، في الرئاسات الثلاث، على امل ان يقلّ مستوى الحساسية المتبادلة، وتنخفض كلفة الاعتراض، ويُرسل في الوقت ذاته خطاب الى الداخل والخارج مفاده ان الطبقة السياسية مستعدة لعملية تجميل واسعة.
الخوف من تكرار سيناريو الانسداد
الخوف الذي يطارد الكتل اليوم هو تكرار سيناريو الانسداد الذي رافق تشكيل الحكومات السابقة، حين تحولت مفاوضات تسمية رئيس الوزراء الى مسار شاق امتد اشهرا طويلة، وأصبحت مواقع الدولة رهينة رسائل متبادلة بين القوى، واشتباكات في الشارع، وتجاذبات إقليمية. هذه الذاكرة القريبة تدفع بعض المشاركين في الحوارات الى رفع كلفة الرفض، عبر طرح خيار “الصفقة الكاملة”: ثلاث رئاسات بوجوه جديدة مقابل تسوية شاملة على تقاسم النفوذ في الحكومات المحلية والوزارات السيادية والخدمية.
حزمة الدماء الجديدة: عنوان سياسي لصفقة توزيع جديدة
بهذا المعنى، “حزمة الدماء الجديدة” ليست فكرة رومانسية عن التغيير بقدر ما هي عنوان سياسي لصفقة توزيع جديدة. في المقابل، تبرز معادلة معقدة داخل الاطار التنسيقي نفسه. بعض اطرافه لا تزال ترى في أسماء مجربة خيارا مضمونا، لاعتبارات تتعلق بشبكات التنسيق الأمني والاقتصادي مع الخارج، وبالقدرة على إدارة التوازن داخل البيت الشيعي، وبالعلاقة مع القوى الكردية والسنية.
الشارع في موقع المتفرج الحذر
الشارع في موقع المتفرج الحذر، وهو الذي خبر وعود “التغيير” في اكثر من محطة انتخابية من دون ان يلمس تغييرا حقيقيا في بنية الخدمات، وفرص العمل، والعدالة في توزيع الثروة. من هذه الزاوية، قد لا يعنيه كثيرا ان يكون رئيس الوزراء من “الجيل القديم” او “الدماء الجديدة” بقدر ما يعنيه ان تتبدل طريقة إدارة الدولة، وان تتراجع سطوة شبكات الفساد والزبائنية التي تحكم الحياة اليومية للمواطن.
ازمة اعمق من مجرد اختيار أسماء للرئاسات الثلاث
في النهاية، تعكس النقاشات الدائرة اليوم حول مرشح التسوية والوجوه الجديدة ازمة اعمق من مجرد اختيار أسماء للرئاسات الثلاث. انها ازمة تعريف لطبيعة الدولة نفسها: هل هي دولة أحزاب تتحاصص السلطة وتُبقي الإدارة العامة رهينة شبكاتها، أم دولة مؤسسات تحكمها قواعد واضحة وتدوير حقيقي للنخب؟ الجواب عن هذا السؤال لن يأتي فقط من قاعات التفاوض، بل من كيفية قراءة القوى السياسية لحدود قدرتها على تجاهل ما يجري خارج تلك القاعات، من ضغط اقتصادي واجتماعي وقلق شعبي يتصاعد.

