حرب بلا نهاية: السفاري البشرية والعنف القاتل
من سراييفو المحاصرة في تسعينيات القرن الماضي إلى خطوط التماس في كركوك خلال الحرب على داعش، تعود إلى الواجهة واحدة من أحلك الصور التي يمكن أن تنتجها الحروب: الحديث عن “سياحة القناصة” و”رحلات السفاري البشرية”، حيث يدفع أجانب أثرياء أموالاً طائلة ليحملوا بندقية قنص ويجرّبوا إطلاق النار على بشر حقيقيين في مدنٍ تتحول إلى مسارح مفتوحة للموت.
التحقيقات الأوروبية
خلال الأسابيع الأخيرة، فتح الادعاء العام في مدينة ميلانو الإيطالية تحقيقاً واسعاً في مزاعم تفيد بأن أوروبيين، بعضهم من إيطاليا، دفعوا عشرات الآلاف من الجنيهات للانضمام إلى قناصة خلال حصار سراييفو بين عامي 1992 و1996، من أجل إطلاق النار على المدنيين “من باب الترفيه”. التحقيق يستند إلى شهادات قدامى عسكريين ومسؤولين بوسنيين ووثائقيات مثل “سفاري سراييفو”، التي وثّقت روايات عن “سياح” كانوا يُنقلون إلى نقاط قنص محددة، حيث يُتاح لهم استهداف المارة مقابل مبالغ مالية تتصاعد قيمتها إذا أصابت الرصاصة أطفالاً أو أهدافاً “أصعب”.
الوضع في العراق
لكن المقلق بالنسبة للعراق أن هذه القصص لم تعد محصورة بذاكرة البلقان. تقارير صحفية بريطانية أخيرة نقلت عن “سائح حرب” يُدعى أندرو دروي، سافر إلى عدد من مناطق النزاع على مدى عقدين، أنه تلقى عرضاً صريحاً بإطلاق النار من بندقية قنص على هدف بشري أثناء وجوده على الخطوط الأمامية في كركوك خلال سنوات الحرب ضد داعش.
هنا بالضبط يبدأ السؤال العراقي: إذا كانت شهادات كهذه تجد طريقها إلى الصحف البريطانية وإلى تحقيقات الادعاء في أوروبا، فماذا نعرف نحن عن شكل تداخل “سياحة الحرب” مع ساحات القتال العراقية خلال العقدين الماضيين؟
الخطر الأخلاقي
أكثر ما يثير القلق في المنحى الذي تكشفه تحقيقات البلقان وشهادات زوار الجبهات العراقية هو البعد الأخلاقي: تحويل الحرب إلى سلعة. حين يصبح بإمكان ثري أوروبي أن يقطع آلاف الكيلومترات ليدفع عشرات الآلاف من الجنيهات مقابل “تجربة قنص” في سراييفو أو على مشارف كركوك، فهذا يعني أن حياة المدني في هذه المدن باتت جزءاً من “عرض” يُسوَّق في دوائر مغلقة لعشاق الأسلحة وتجارب العنف القصوى.
التحديات القانونية
من الناحية القانونية، تطرح هذه القصص تحدياً معقداً. في أوروبا، يتحرك الادعاء الإيطالي اليوم على أساس جريمة “القتل العمد بدافع دنيء” بحق مواطنين قد يكونون شاركوا في “سفاري بشرية” قبل ثلاثة عقود، مستنداً إلى مبدأ الولاية القضائية على الجرائم الدولية التي يرتكبها مواطنو الدولة في الخارج.
الخطوات المستقبلية
يمكن للسلطات العراقية، إذا أرادت، أن تطلب عبر القنوات الدبلوماسية والقضائية تفاصيل أكثر عن التحقيقات الجارية في أوروبا، وأن تتحرى ما إذا كانت الأراضي العراقية قد استُخدمت بالفعل ضمن مسارح “السفاري البشرية” أو “سياحة القناصة” في أي مرحلة من مراحل الصراع.
يمكن للبرلمان أن يدرس تشريعاً يجرّم بشكل صريح مشاركة الأجانب في أي عمل قتالي خارج إطار الاتفاقات العسكرية الرسمية، سواء كانت المشاركة بدافع أيديولوجي أو مالي او “سياحي”، وأن يفرض على القوات المحلية التزامات واضحة في التعامل مع الصحفيين والزوار الأجانب في مناطق النزاع، بما يمنع تحويل الجبهات إلى فضاء مفتوح لتجارب مَرَضية مثل هذه.

