الجدل حول دور المبعوث الأميركي في بغداد: بين الدعوة إلى الاستقلال والتدخل المباشر
خلفية الجدل
بعد سنة تقريبا من إعلان فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية جديدة، برز اسم مارك سافايا في بغداد كأحدث وجه للنفوذ الأميركي المباشر داخل النظام السياسي العراقي. الرجل الذي بلا سجل دبلوماسي، ولا تاريخ في العمل الخارجي، ولا خبرة في تعقيدات العراق، تحوّل بين ليلة وضحاها إلى قناة اتصال رئاسية تتجاوز السفارة ووزارة الخارجية، وتعمل على رسم معالم ما تسميه واشنطن “التوازن المطلوب لمرحلة ما بعد انتخابات 2025”.
المفارقة في خطاب سافايا
لكن المفارقة التي أثارت جدلاً واسعاً داخل الأوساط السياسية لم تكن في طبيعة دوره بقدر ما كانت في خطابه. فبينما يكرر سافايا في تصريحاته ولقاءاته الخاصة أن العراق “يجب أن يكون مستقلاً، بعيداً عن أي تدخل أجنبي”, يعمل هو نفسه على تحديد شكل الحكومة المقبلة، وإرسال إشارات واضحة حول القوى المقبولة وغير المقبولة، بل ويستخدم أدوات ضغط اقتصادية ومالية لتعديل مسار المفاوضات السياسية.
تحليل الدور
عدنان محمد علي، عضو مركز التنمية، يرى أن حل اللغز يبدأ من شخصية الرجل نفسه. فبحسب ما قاله، فإن سافايا “لا يملك سجلاً سياسياً واضح المعالم، ولم يمر بأي مسار مهني يؤهله للتعامل مع ملفات شديدة الحساسية مثل توازنات النفوذ في العراق.” ويضيف أن مشاركته في حملة ترامب الانتخابية كانت المدخل الحقيقي لهذا التكليف، وليس خبرة دبلوماسية أو رؤية استراتيجية، “ما يجعل طريقته في فهم العراق أقرب إلى الضغط منه إلى بناء العلاقات”.
حدود الدور الأميركي
النائب السابق أيوب الربيعي يذهب أبعد من ذلك، معتبراً أن سلوك سافايا ذاته يكشف حدود الدور الأميركي. ويؤكد أن “الولايات المتحدة لا تستطيع فرض ما تريد على العراق حتى لو أرادت. فالانتخابات أفرزت مشهداً واضحاً، والقوى السياسية تتحرك وفق استحقاقات داخلية. وأي رؤية أميركية، سواء حملها سافايا أو غيره، لن تمضي ما لم تتقاطع مع المصالح الوطنية للقوى العراقية”.
الجدل حول النوايا
لكن الجدل الحقيقي لا يتوقف عند سؤال القدرة الأميركية، بل عند سؤال النوايا. فبينما يقدم سافايا نفسه كصوت يدعو للاستقرار ومنع التدخلات الأجنبية، يراه المحلل رعد المسعودي مثالاً على “أبرز أنواع التدخل”. يقول المسعودي إن واشنطن تريد تقليص النفوذ الإيراني في بغداد، لكنها تدرك أن هذا النفوذ “متجذر منذ عقود داخل مؤسسات الدولة والأحزاب، ولا يمكن مواجهته إلا عبر أدوات اقتصادية ومالية وسياسية”.
تاريخ العلاقة بين بغداد وواشنطن
تاريخ العلاقة بين بغداد وواشنطن يقدّم نموذجاً يساعد على تفسير هذه المفارقة. الأميركيون لم ينظروا يوماً إلى العراق باعتباره دولة مكتفية بذاتها، بل كجزء من معادلة إقليمية أوسع. خلال سنوات الاحتلال ثم الانسحاب، وصولاً إلى الحرب على داعش، كان هاجس واشنطن مزدوجاً: منع إيران من الهيمنة المطلقة، وعدم خسارة العراق لصالح Moscow، أو Beijing، أو طهران.
مستقبل العلاقة
الأكثر إثارة أن طريقة ظهور سافايا في المشهد تعزز هذه الفرضية. فهو لم يأتِ عبر السفارة، ولم يُعلن عنه ضمن هيكل البيروقراطية الأميركية، بل جاء بصفة “مبعوث رئاسي”، أي بسلطة شخصية، وبمهمة مرنة، وبحرية أكبر في تجاوز الأعراف. وحتى حين انتشرت شائعات عزله، لم يخرج بيان رسمي من الخارجية، بل قام الرجل نفسه بنشر مقطع فيديو يؤكد استمرار مهمته، في خطوة بدت وكأنه يتصرف بمنطق “المرجع السياسي” للتعامل مع العراق.
النتائج
هذه القناة الخاصة بين ترامب وسافايا، بحسب مراقبين، ليست مجرد وساطة، بل “شكل جديد من الوصاية السياسية غير المعلنة”. وصاية لا تعتمد على الاحتلال العسكري، بل على أدوات مالية، وضغوط سياسية، ورسائل مباشرة إلى الكتل في لحظة تشكّل حكومة جديدة.
الخلاصة
وفي المحصلة، يتجاوز السؤال حدود شخصية سافايا ودوره، ليصل إلى جوهر النقاش السياسي في البلاد: هل تمثل هذه التحركات محاولة أميركية لإعادة فرض صيغة جديدة من الهيمنة على القرار السياسي العراقي عبر أدوات مالية وسياسية وإعلامية، بعد أن تراجعت فعالية الأدوات العسكرية؟ أم أن واشنطن تسعى فقط إلى تقليص نفوذ طهران، من دون امتلاك تصور واقعي لطبيعة التوازنات الداخلية؟

