قبل شهر فقط كانت الخيوط معقدة، ومنذ عدة أشهر تقدمت أسوأ الاحتمالات إلى الواجهة، وطوال سنتين عاشت المنطقة على فوهة بركان كادت تطيح بالتوازنات الجيوسياسية دفعة واحدة. ولم يكن أشد الناس تفاؤلا يتوقع أن تعود البوصلة لوضعها الصحيح، أما المتشائمون والمغرضون فكانوا أكثر إغراقا فى الدراما السوداء. ولولا مصر وصلابة مواقفها؛ لسارت الأمور فى مسار آخر. ومن هنا تتكشف استثنائية اللحظة التى شهدها العالم فى قمة شرم الشيخ للسلام قبل يومين.
أدارت القاهرة واحدة من أشد مراحل الفوضى والتقلبات الإقليمية بمهارة عالية. استبقت الجميع بالقراءة الرشيدة والاستشراف العميق، ثبّتت عناوينها الكبرى بمضامين لا تقبل التحريف أو المساومة، واحتوت الضغوط والتداعيات بديناميكية ودأب، وكانت رسائلها محسوبة بمنتهى الدقة والانضباط، ومن دون إفراط أو تفريط. ما سمح لها بالقبض على الدفة وتوجيه قارب المنطقة إلى المرفأ الذى تبتغيه، رغم ظروف الطقس واشتداد هبوب الرياح من كل الجهات.
لم يكن «الطوفان» حدثا اعتياديا، ولا جاءت ارتداداته من داخل الصندوق القديم. وأصل الأزمة فى الاحتلال من دون شك؛ لكن المقاومة تورّطت فى مغامرة غير محسوبة، وأفسحت لعدوّها مجالا يسمح بخلط الأوراق وتسييل المعادلات؛ فتجاوز الاشتباك سريعا دائرة الثنائية الصراعية داخل فلسطين، واتّسع بامتداد الشرق الأوسط طولا وعرضا، حتى صارت المواجهة الكبرى مشبوكة بحروب جزئية صغيرة، ومفتوحة على مخاطر التوسع، وأطماع اللعب فى الخرائط، وخطط الإزاحة الديموغرافية التى كانت مطمورة فى الأدراج.
والعُقدة المفتاحية أن النار فى القطاع، والزيت يتدفق من جبهات عِدّة، ولا سبيل لإطفاء الحرائق إلا بعَزل البيئات الساخنة عن بعضها أولا، وتثبيت الغزيين على أرضهم، ثم إفساح طريق تقود إلى السياسة فى آخر المطاف؛ ومهما بدا الحل فيها بعيدا أو صعب المنال.
البداية الصادمة ألجمت كل الأطراف مبكرا؛ بمن فيهم إسرائيل والفصائل. احتفل القافزون إلى مستوطنات الغلاف بالإنجاز، واستجمع الصهاينة طاقة الغضب والكراهية ليردوا على الصفعة بما يفوقها قسوة، فيما تلهّى الناظرون للوقائع من ظاهرها السطحى بالخُطَب والبارود، وما استرعاهم ما يُعد له فى الكواليس لتحويل اللحظة العابرة إلى نكبة دائمة.
وحدها مصر استشرفت المآلات البعيدة، مدفوعة بخبرتها الطويلة مع الدولة العبرية، وما تعرفه عن استعدادها الدائم لانتهاز الفرص، وربما اختراعها من أقل هامش متاح. وعليه؛ فقد كانت أول من اتخذ موقفا صريحا من مسألة التهجير وتصفية القضية، ووضعت مخاطر المستقبل على طاولة الحاضر بدءا من قمة القاهرة للسلام فى أكتوبر 2023، وإلى أن أنجزت مهمتها الشريفة فى قمة شرم الشيخ 2025.
لم تكن الأيام ثقيلة على أحد أكثر من الغزيين الأبرياء؛ لكن معركة أخرى لا تقل سخونة خاضتها مصر لصالحهم طيلة العامين الماضيين. وبالرغم من كل محاولات الابتزاز والمزايدة، ومن الترغيب والترهيب بكل الصور المتاحة.
وكان من نتائج ذلك أن توقفت الحرب التى لم يُرد لها نتنياهو أن تتوقف، وتحمّلت حماس نصيبها من المسؤولية التى ظلت تنكرها وتتهرب منها، ووُضعت ملامح مرحلة انتقالية يُفترض أن تُفضى عمليا إلى إنهاء الانقسام الطويل، وعودة السلطة الوطنية للقطاع بعد نحو عقدين من الانقلاب عليها فيه.
والأهم أن غزة ستظل لأهلها كما كانت دائما، وسيُعاد إعمارها بهم ولأجلهم، ولن تُشَقّ مسارات احتيالية لإخراجهم منها قسرا أو طوعا؛ وقد كان الاحتلال يفتش عن بدائل داخلية بعدما سدّت مصر الطريق على أوهامه من حدود سيناء.
لم تكن المهمة سهلة على الإطلاق، بين طرفين مُتحاربين تتسلّط عليهما أفكار أيديولوجية أو حسابات خاصة، وأدوار تاريخية لطالما اضطلعت بها مصر ولم تُقصّر فيها، فضلا على أنها الجوار اللصيق بالقطاع، والطرف الأكثر تضرُّرًا من الصراع أيضًا.
وكان عليها أن تُوازن بين انحيازها المُعلَن للقضية، والتزامات الوساطة المُحايدة، ومهارة المناورة وتفادى السهام الطائشة من كل الاتجاهات، ولا فارق فيها بين دعايات الصهاينة، أو مُكايدات الإخوان ومن سار على دربهم فى استغلال الأزمة لأهداف مشبوهة وساقطة.
والحقّ؛ أن ما أنجزته الإدارة المصرية على طول الفترة الماضية، وما تكشّف من حجم التنسيق بين المؤسسات والأجهزة المُختلفة، ينُمّ عن كفاءة استراتيجية تمتّعت بها الدولة وأتقنتها وأحسنت استغلالها فى أحلك الظروف. فلم تفقد ثباتها الانفعالى لحظة واحدة، ولا استُدرجت إلى ما لا تريد، وكانت دومًا رُمّانة الميزان فى سياق مائج بالأحداث الظاهرة والمُكابدات المُستترة. ولم تقل فى السر غير ما أذاعته فى العلن؛ والدليل أنها وصلت إلى وجهتها المقصودة من دون مؤاخذة أو شائبة.
تكبّدت مؤسسة الرئاسة أعباء ثِقالاً فى الكمّ والنوع، ولعبت الدبلوماسية دورًا شديد الرُشد فى الدفاع والهجوم وإبقاء السردية العادلة على قدم المساواة مع بروباجندا الاحتلال؛ رغم كل ما أنفقه عليها وما تمتّع به من دعم غربى كاسح فى بادئة الأزمة على الأقل.
وربح رجال المخابرات العامة فى معارك الظلّ؛ ذلك أنهم كانت شركاء فى إنجاز هُدنتين سابقتين، ثمّ قادوا ورشة التوصل إلى اتفاق شرم الشيخ لإنهاء الحرب، وبقدر ما كانت جهودهم جسرًا للتفاهم وبناء لُغة مُشتركة فى المفاوضات؛ فإنها رشّدت كثيرًا من مواقف الأطراف كُلها، ويعود إليها الفضل فى اقتراح البدائل العملية، وضبط كثير من البنود الخلافية.
قال الرئيس الأمريكى كلامًا كثيرًا يستدعى التوقّف أمامه؛ لكن أهم ما ورد فى كلمته على منصّة شرم الشيخ أنه ليس لِزامًا أن تُطبّق بنود خطّته للسلام بالترتيب؛ بل وفق الأولويات واحتياجات المراحل.
ولعلّ فى هذا ما يُشير إلى الفاعلية المصرية فى كواليس النقاش، وما طُرِح عن هُدنة طويلة بتجميد السلاح بدلاً من نزعه، بحيث لا تقف تلك النقطة الخلافية عائقًا أمام إرساء ركائز المرحلة الانتقالية، وبدء جهود التعافى وإعادة الإعمار، وصولاً لتلزيم المسؤولية للسلطة الوطنية بعدما يُعاد تأهيلها.
لا أحد كان يستطيع إيقاف نتنياهو سوى ترامب. تلك حقيقة لا مراء فيها ولا افتئات عليها؛ لكن الوصول إلى المحطّة التى تستدرك فيها واشنطن على نفسها، وتُعيد تكييف تصوّراتها عن الاشتباك وسُبل الخروج منه؛ إنما تعود بالأساس إلى جدية القاهرة، وقدرتها على احتواء الخلافات، ورهانها على الإقناع بالصلابة والإصرار وتعرية الخصوم. وكان من ثمار ذلك أن استُبعدت كل الخُطط البديلة لمستقبل غزة، ولم يُقْضَ فيه إلا بما قالته مصر منذ اليوم الأول.
تطحن الحروب البشر وتعبر على أشلائهم؛ لكن آثارها على الأحياء دائمًا ما تكون أشدّ وطأة ومُقامًا. وفى سابق التجارب الماثلة فى الذاكرة، خسرت القضية من اللحم الحى فوق ما نزفته شرايين الأموات.
النكبة الأولى ابتلعت جُلّ فلسطين وشطبت نصف السكان تقريبا من تعدادها، وفى يونيو 1967 استُكمِل القضم بالضفة الغربية والقطاع، وأُضيف آلاف جُدد إلى قوائم اللاجئين. أما المطروح اليوم عن غزة، وحال سارت الأمور كما خُطِّط لها؛ فلن يُطرَد فيه فردٌ أو تفقد الأرض شبرًا واحدا.
لم تكن المهمة سهلة على الإطلاق. بدأت الأزمة من نقطة الذروة؛ واختل اتّزان العالم وغاب ضميره فى سُبات طويل. وكان المطلوب حماية المُمكن واستكشاف السكّة إلى المأمول، دون التورّط فى صدامٍ يضرّ ولا ينفع، أو الانحناء للعاصفة على حساب الثوابت الوطنية والأخلاقية واعتبارات الأمن القومى.
ولم تنحصر الجهود فى الإغاثة والوساطة فحسب؛ بل امتدت منذ البواكير وتنوّعت، لتشمل التصعيد الدبلوماسى المُتدرّج، ورسم الخطوط الحمراء بصلابة عاقلة، والدفع بكل قوّة فى اتجاه تعديل السردية، واستقطاب المُحايدين أو إيقاظ الغافلين.
انتعش «حلّ الدولتين» على منصّة قمة القاهرة، ووضعت مصر جُملة «رفض التهجير» فى كل الأفواه، من الجوار الإقليمى القريب إلى أبعد عواصم الدنيا. أبرزت المظلمة؛ ولم تنزلق إلى اختزال المسألة السياسية فى حيِّز الكارثة الإنسانية وحدها، ومن يقينها صُوِّبت كثير من المواقف شرقًا وغربًا، وتأكد الغزّيون أنهم ليسوا عُرضة لأية صفقات ظالمة؛ فازدادوا صلابة وتشبّثا بالوجود فى وجه العدم. وفيما انجلى أن تصحيف الخرائط وزحزحتها غير مطروح من الأساس؛ فقد انصرف الاهتمام إلى حل العُقدة بدلاً من قطع الحبل.
وما فات لا يمنع من استشعار الخطورة فى المقبل، وواجب الحذر والتحسُّب لكل الاحتمالات؛ لكن الغالب على الأمر حتى الآن أن الحرب توقّفت ولن تعود، وأن محاولات التشغيب والالتفاف على الاتفاق فى مدار الاحتياط، ولن تخرج بالترتيبات الحالية عن نطاق النقاش والجدل وإعادة ترتيب المراحل أو تعديلها، ومن دون أن يربح الاحتلال مزيدًا من النقاط، أو يخسر القطاع أكثر مِمّا خسره بالفعل.
أكّدت قمة شرم الشيخ أنه لا سبيل لإخراج القضية الفلسطينية من حاضنتها التاريخية، ولا تسوية فيها أو حل من خارج القاهرة. وليس هذا لأن مصر لصيقة بها جغرافيًّا فحسب؛ إنما لأنها وتد الاستقرار الجيوسياسى فى الإقليم، وقائدة الخارطة العربية وزعيمتها بالمكانة والمكان والثِقَل النوعى، اتّصالا بالتاريخ الذى تفرّعت فيه خيوط المنطقة كلها من وادى النيل، وامتدادًا لحاضر تقف فيه وحدها كأقوى فاعل سياسى فى محيطها، وصاحبة الرؤية الأكثر نضجًا وتعمُّقًا، والمالكة الوحيدة تقريبا لكل عناصر القوّة الشاملة.
نجحت مصر فى امتحان العرب جميعًا، وأخرجت الإقليم من حال انسداد كانت تُهدِّد بالسيولة أو التفجير. والحق؛ أنها بقدر ما انبرت لصياغة رؤية مُتكاملة للحل، وقادت أشقاءها على طريق تثبيت تلك الرؤية وتسويقها، فقد استفادت من مُؤازرة لا تُنكَر من العواصم العربية الفاعلة. وإذا كانت راية الزعامة اليوم قد انعقدت لها عن جدارة واستحقاق؛ فإن سَير المُخلصين من ورائها أغنى مواقفها الفردية الراسخة، وأعانها على الاضطلاع بواجبات اللحظة، وعلى إنجاز الهدف النهائى الذى يصبُّ فى صالح المجموع.
الجغرافيا تاريخ ساكن، والتاريخ جغرافيا مُتحرّكة؛ على ما يقول جمال حمدان. وهُما توأمان نافران من بعضهما، ويتبادلان الكرّ والفر فى مُطاردة لا تتوقف. وما كان يُهدد الجغرافيا اليوم؛ تصدّى له التاريخ الذى تحمله القاهرة على كتفيها، لا تنوء به، ولا تتعب من إسناد الآخرين فى ضعفها قبل قوّتها، وفى العَوز قبل الغَنَى. إنها الشقيق الجالس فى آخر الصف؛ عن ثقة وزُهدٍ ومحبّة خالصة؛ لكنه فى أى موقع يضع ثِقَلَه تميل إليه الوقائع والأحداث والأنظار؛ ويصير مركز الدائرة من جديد.
لا تهجير ولا تصفية للقضية الفلسطينية، كما قالت مصر وقيادتها منذ اللحظة الأولى؛ أمّا التسوية النهائية فتقع على عاتق الجميع بالتساوى. ومهمّة الكبار أن يكونوا رادعًا وحائط صدّ، أن يضعوا القوانين العُليا الحاكمة، ويُرسِّموا حدود المسموح والممنوع، وإليهم تنتهى المُغامرات والنزوات جميعًا، ولا يُقضَى فيها إلا بما يريدون. يُمكن لأى طامعٍ أو مُغامر أن يُعقِّد الأوضاع؛ لكنها لن تنحلّ أبدًا إلا هُنا.

