لم تكن جمهورية بنين، خلال العقد الأخير، بلداً عادياً في غرب أفريقيا. ففي محيطٍ مضطرب تشهد فيه المنطقة انقلابات متلاحقة، وحكومات انتقالية ترفع شعارات «التحرر من الوصاية الفرنسية»، و«السيادة الوطنية»، نجحت كوتونو في أن تبقي نفسها خارج دوامة الاضطراب. منذ عام 2016، حين وصل الرئيس باتريس تالون إلى الحكم، دخلت البلاد مرحلة جديدة قوامها الاستقرار المالي والانضباط الاقتصادي، وهي اليوم على أعتاب تجربة غير مسبوقة في انتقال السلطة، قد تكون من بين الأكثر هدوءاً في القارة.
قرار تالون بعدم الترشح لولاية ثالثة، رغم ما تمنحه إياه شعبيته في بعض الأوساط الاقتصادية والإدارية، حمل أكثر من رسالة. فهو يُراد له أن يكون انتقالاً محسوباً نحو جيل جديد من الكوادر التي نشأت في ظل مشروعه الإصلاحي. اختيار وزير ماليته روموالد واداغني مرشحاً لخلافته في الانتخابات الرئاسية المقررة في أبريل (نيسان) 2026، ليس مجرد خطوة حزبية أو وفاء لمساعدٍ ناجح، بل يعكس فلسفة كاملة في إدارة الدولة، تقوم على جعل الاقتصاد محور السياسة، لا العكس.
روموالد واداغني، البالغ من العمر تسعة وأربعين عاماً، يمثل في نظر كثيرين الوجه العصري لبنين الجديدة: تكنوقراطي هادئ، متمرس في لغة الأرقام، تخرّج في مدارس دولية كبرى، وعمل في مؤسسات مالية عالمية قبل أن يُستدعى إلى الحكومة عام 2016 لتولي حقيبة «المالية». منذ ذلك الحين، أصبح أحد أبرز أركان إدارة تالون، ومهندساً رئيسياً للسياسات التي نقلت بنين إلى نادي الدول الأفريقية الأكثر استقراراً مالياً، وفق تقارير المؤسسات الدولية.
البلد الذي كان يعتمد، إلى وقت قريب، على تدفقات الترانزيت المقبلة من الجارة نيجيريا أو على صادرات القطن، وجد في العقد الأخير طريقه إلى تنوع اقتصادي محسوب. فقد تمكنت الحكومة من استقطاب استثمارات في مجالات البنى التحتية والطاقة والخدمات، وحققت معدلات نمو فاقت 6 في المائة سنوياً، مع دين عمومي تحت السيطرة، وتصنيفات إيجابية لدى وكالات الائتمان الدولية. هذا النجاح المالي منح النظام القائم شرعية جديدة تقوم على الكفاءة والنتائج، أكثر من الخطاب السياسي التقليدي.
لكن هذا المسار، رغم صلابته الاقتصادية، لا يخلو من ثغرات سياسية. فالمعارضة البنينيّة، وعلى رأسها حزب «الديمقراطيين» بزعامة الرئيس الأسبق توماس بوني يايي، تشتكي مما تسمّيه تراجع الحريات العامة، وتقليص مساحات العمل الحزبي والإعلامي، مقابل تمدد نفوذ الدولة المركزية. في المقابل، يرى مؤيدو الحكومة أن الإصلاح الاقتصادي لم يكن ممكناً إلا بقدرٍ من الانضباط السياسي، وأن البلاد كانت بحاجة إلى «دولة قوية» لتعيد النظام المالي وتستعيد ثقة المستثمرين.
من هنا، فإن ترشيح واداغني يأتي في نقطة توازن دقيقة بين ما يعتبره البعض «نجاحاً تنموياً»، وما يراه آخرون «صلابة إدارية مبالغاً فيها». الرجل يترشح باسم الاستمرارية، لكن أمامه تحدٍ مزدوج: أن يقنع الرأي العام بأنه ليس مجرد امتداد لرئيسه، وأن يُظهر في الوقت ذاته أنه ضامنٌ للاستقرار الذي تحقق في عهد تالون. إنه امتحان صعب في بلدٍ لا يحتمل المغامرة، لكنه يطلب أيضاً نفساً جديداً في السياسة.
اللافت أن تالون لم يخرج من المشهد تماماً. فهو لا يزال يحتفظ بوزن سياسي واقتصادي يجعله أشبه بـ«عرّاب المرحلة المقبلة»، وهو ما يمنح واداغني ميزة الانطلاق من أرضية جاهزة، لكنه يضعه أيضاً تحت ظل ثقيل لرئيس لا يزال حاضراً في الذاكرة وفي مؤسسات الدولة. أما المعارضة، فتعاني من انقسامٍ وتراجعٍ في القاعدة الشعبية، ولم تُعلن بعدُ عن مرشحها، وإن كان من المتوقع أن تحاول استثمار ورقة «الاستمرارية المفرطة» ضد مرشح السلطة.
بنين اليوم تقف على مفترق طرق نادر في القارة: ديمقراطية متماسكة دون انقلابات، ونجاح اقتصادي دون ثروة نفطية. وإذا ما جرى الانتقال الرئاسي في أبريل المقبل بسلاسة، فإن البلاد ستُسجل سابقة مهمة في غرب أفريقيا، حيث أصبحت الولاية الثالثة عنواناً لأزمات مزمنة. لكن النجاح السياسي لا يُقاس بالانتخابات وحدها، بل بقدرة القيادة الجديدة على تحويل المنجز الاقتصادي إلى عدالة اجتماعية يشعر بها المواطن في الشمال والجنوب، في المدن والقرى.
تالون غيّر وجه بنين، لا بالخطابة ولا بالاستعراض، بل بمقاربات مالية صارمة وبتقليص الهدر في الإدارة العامة. وقد حان الوقت ليرى البنينيون إن كانت تلك المدرسة قادرة على إنتاج قائدٍ جديدٍ بروح مختلفة، أو أنها ستظل نموذجاً اقتصادياً يبحث عن لغة سياسية أكثر انفتاحاً.
الانتخابات المقبلة ستكون، إذن، استفتاءً على مدرسة كاملة في الحكم، أكثر منها منافسة بين شخصين. وفي حال تمكن واداغني من كسب ثقة الناخبين، فسيكون أول اختبارٍ حقيقيّ لانتقال السلطة المنظم في بنين الحديثة، وتجربة أخرى تُضاف إلى رصيد دولة قررت أن تراهن على العقلانية وسط بحرٍ أفريقيٍّ يفيض بالعواطف والحلول الصعبة.

