خلال كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي، كان لافتاً ومثيراً للدهشة تركيز الرئيس الأميركي دونالد ترمب على تفاصيل ثانوية، مثل حالة المبنى وقصة عرضه القديم لصيانته. هذا التركيز على الهوامش جاء في تجاهل شبه تام لسيل من القضايا المصيرية التي تواجه العالم.
ففي الداخل الأميركي، يتصاعد العنف السياسي إلى مستويات غير مسبوقة، مهدداً النسيج الاجتماعي ومؤسسات الدولة. وعلى الصعيد الدولي، تتفاقم المأساة الإنسانية في غزة لتصل إلى حد الكارثة، في ظل تعنت إسرائيلي يضرب عرض الحائط بكل الأعراف الدولية، في حين تستمر الحرب الأوكرانية في استنزاف أمن واقتصاد حلف الناتو، وتلقي بظلالها على استقرار القارة الأوروبية بأكملها.
وفي خضم هذه الأزمات، تبرز فرصة دبلوماسية نادرة؛ حيث تقود المملكة العربية السعودية وفرنسا مؤتمراً دولياً لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتَين، وهو المؤتمر الذي حظي بزخم كبير مع إعلان دول عدة اعترافها بدولة فلسطين، مما شكّل بصيص أمل لتحقيق سلام طال انتظاره.
لم يكن محتوى خطاب ترمب المطول مفاجئاً في حد ذاته، فقد كرر رؤيته لعالم يتكون من دول قوية تتصرف وفق مصالحها، موجهاً انتقاداته المعتادة إلى الصين وممارساتها التجارية، ومنتقداً الحلفاء الأوروبيين. لكن هذا الخطاب ليس إلا انعكاساً لحالة أعمق وأخطر: حالة الانقسام الداخلي الذي تعيشه الولايات المتحدة، والذي يذكّرنا بالاضطرابات التي شهدتها البلاد في حقبة الستينات، ولكنه يأتي بصبغة عصرية أشد تعقيداً.
تكمن المفارقة في أحاديث الناس العاديين في الشارع الأميركي، فكثيرٌ منهم يصدّقون دعايات التعبئة التي لا تلامس حياتهم اليومية. فاستماتة بعضهم لدعم إسرائيل أو أوكرانيا، والبعض الآخر لبناء جدار على الحدود الجنوبية، والآخرون الذين يكرّسون حياتهم لقضايا المناخ العالمي أو حقوق المثليين والعابرين جنسياً؛ كلها قضايا لا تمسّ الحياة اليومية للمواطن الأميركي العادي، ومع ذلك تتم تعبئتهم جماهيرياً بخطابات كراهية بعضهم بعضاً.
خلاصة القول، إن هذا الانقسام الحاد والممنهج في الشارع الأميركي يمنح ساسة واشنطن الفرصة لتمرير أجندة خطيرة، ليس على الشعب الأميركي فحسب، بل على العالم أجمع. إن الانشغال بالصراعات الداخلية يصور أميركا شريكاً غير موثوق به ومتقلب على الساحة الدولية، مما يُضعف الجهود الدبلوماسية ويشجع الخصوم.
وتبدو القضية الفلسطينية التي تمثّل محور السلام والاستقرار الدولي، ضحية مباشرة لهذه السياسة. وهنا يُطرح السؤال الجوهري على الرئيس ترمب: هل شعار «أميركا أولاً» حقيقي؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فلماذا الإصرار على حماية أجندة بنيامين نتنياهو المتطرفة، وهي أجندة تتحدى الإجماع الدولي الذي تقوده الرياض وباريس؟ إن مثل هذا الموقف لا يهدد فقط بتنفير الحلفاء الأساسيين، بل يغامر بإشعال المنطقة بالمزيد من عدم الاستقرار، وهي نتيجة ستضر حتماً بالمصالح الأمنية والاقتصادية الأميركية على المدى الطويل، مما يحول شعار «أميركا أولاً» إلى مفارقة تدمر نفسها بنفسها.

