ما زلنا مع الحديث عن الحضارة المصرية القديمة وكيفية التفاعل معها، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة.
وما زلنا مع قصة حورمحب.. بعد الوفاة المفاجئة لتوت عنخ آمون، كان من الطبيعى أن تتجه الأنظار لحورمحب ليجلس على عرش مصر، لكنه كان له رأى مختلف.
فحورمحب كان شديد التمسك بالقوانين والقواعد، خاصة تلك المنظمة للإدارة والحكم، وكان القائد آى – من حيث قرابة الدم والنسب – أقرب للأسرة الحاكمة، فتقول رواية إنه كان أبًا لنفرتيتى، ورواية أخرى تربطه بعائلة تويا ويويا والدا الملكة الأم تيى.. أى ما كان من أمر فإن آى كان المرشح “القانونى” للعرش، ولكن كانت ثمة مسألة خطيرة لا بد من التعامل معها فورا.
فأرملة الملك الراحل توت عنخ آمون – الأميرة عنخ إسن آمون – كانت تدرك أن لعبة الحكم سرعان ما تقودها للزواج من أحد الرجلين – آى أو حورمحب – لتصبح له شرعية الحكم، وكانت تأنف من هذه الفكرة، فارتكبت فعلا كارثيا بأن راسلت ملك دولة خيتا/الحيثيين – فى الأناضول حاليا – المنافس الأول لمصر، وطلبت منه أن يرسل أحد أبنائه ليتزوجها ويصبح ملكا على مصر!
كانت هذه سابقة مريعة، فلم يحدث من قبل أن تزوجت مصرية من أجنبى – وإنما كان يحدث العكس بزواج أجنبيات من مصريين غالبا لأسباب دبلوماسية – فما بالنا بأن يؤدى هذا الزواج لتربع أجنبى على عرش المملكة المصرية العتيدة؟
استجاب ملك الحيثيين وأرسل أحد أبنائه – المدعو زانانزا – إلى مصر، ولكن حورمحب كانت له رقابة صقر متيقظ على ما يجرى، فسارع بقطع الطريق على الأمير وقتله، ثم تم إجبار الأميرة على الزواج من آى ليكتسب شرعية حمل لقب الملك.
عاد حورمحب للتفرغ لإعادة بناء قوة مصر الخارجية ونفوذها خاصة على الجبهة الآسيوية، وترك إدارة الداخل لآى، لكن هذا الأخير لم يمتد عهده إلا لأربع سنوات، ثم وجد حورمحب نفسه أمام نفس الموقف: فراغ فى الحكم ومطالبة بتنصيبه ملكا.
لم يعد من بد من حمل تلك المسئولية الثقيلة، فتزوج من الأميرة موتنجمت أخت الملكة السابقة نفرتيتى ليصبح له نسبا ملكيا يسمح له بالجلوس على العرش – وكان حورمحب أرملا قبل زواجه السياسى هذا – وأصبح حورمحب هو فرعون مصر وثورها القوى وتجسد حورس وحامى “الماعت”.
تسلم حورمحب بلدا تجتاحه الفوضى من داخله: انتشار للسلب والنهب، فساد إدارى متمثل فى انتشار الرشوة وتعدى الموظفين على ممتلكات العامة، غياب لا لتطبيق القانون فحسب بل لفكرة القانون نفسه.. فضلا عن اهتزاز مكانة “الفرعون” منذ الغضب الشعبى على أخناتون، وصغر سن توت عنخ آمون، وقصر عهد آى الذى كان مسنا.. فكان لا بد من إعادة بناء هيبة الدولة من جديد.
ترجم حورمحب ولعه بالنظام والانضباط إلى عمل كلفه سهرا مستمرا وجهدا عظيما، فبدأ بدراسة الحالة الواقعية فى البلاد، ثم سهر على وضع وصياغة القوانين اللازمة لإصلاح الأحوال.. وإن كان المشهور أن الملك البابلى حمورابى هو صاحب أول قائمة قوانين، فإن الملك المصرى حورمحب هو صاحب أول مشروع لدستور ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأول مشروع لما يوصف حاليا بـ “القانون الإدارى”.
فقد بين حورمحب فى قوانينه شكل العلاقة بين الموظف والدولة، وبين الدولة والرعية، وأعلن بشكل واضح أن الموظفين والقضاة والإداريين هم أدوات الدولة لتحقيق هدف رعاية مصلحة الرعية، فإن قصر الموظفون فى خدمة هذا الهدف فإن الدولة مسؤولة أمام رعيتها عن التعامل مع هذا التقصير بصرامة.. وقام بعمل إصلاحات للأحوال المعيشية للموظفين – والتى كانت قد اضطربت خلال فترة عدم الاستقرار – ورفع رواتبهم وأعلن لهم بشكل صريح أنه يفعل ذلك كى لا تكون لأحدهم حجة للوقوع فى الفساد أو التربح، فإن ارتكبهما فإنه سيجد نفسه خاضعا لعقوبات شديدة الصرامة بعضها بدنى قاسى جدا.
كذلك فعّل ما يمكن أن نصفه الآن بـ “آلية الرقابة الإدارية” وجعل نفسه على رأسها، فكان يفاجئ القضاة والموظفين بالتفتيش المفاجئ والبحث فى شكاوى العامة ومظالمهم.. ويسّر سبل وصول تلك الشكاوى للقصر.
كما قام بتعليق قوائم القوانين فى المعابد ليعلنها على الناس وليعرف كل إنسان ما له وما عليه.
هذا السلوك هل هو مطابق للصورة النمطية الشائعة – الكاذبة – التى ينشرها البعض: أن الملوك المصريين كانوا طغاة متجبرين يسعون لإخضاع رقاب الرعية لهم؟ بالطبع لا.. فلم تكن سياسة حورمحب إلا امتداد لفكرة “الماعت” وتقديس المصريين القدماء للعدالة والحق والإنصاف.
قضى حورمحب عهده الطويل فى إصلاح ما أفسدته فوضى ثورة أخناتون الفاشلة وما تلاها من أحداث، وعندما شعر بدنو أجله تلفت فوجد أنه لا وريث له، فقرر أن يعين صديقه ورفيق كفاحه القائد العسكرى رمسيس أميرا وراثيا، ليخلفه فى الحكم باسم “رمسيس الأول”، وإن كان قد حكم لفترة لا تتجاوز السنة ليليه ابنه “سيتى الأول” المشهور بـ “مجدد ميلاد مصر”.
كان حورمحب يدرك أن صديقه رمسيس لن يعيش طويلا بعده، لكنه فيما يبدو كان ينظر لما هو أبعد من ذلك، فسيتى ابن رمسيس – سيتى الأول لاحقا – كان شابا طموحا وعسكريا بارعا، تفوق حتى فى كفاءته على أبيه، وكان حورمحب يدرك ذلك، فكان يريد أن يمهد لذلك الشاب الطريق ليصبح هو يوما ما فرعون مصر.
هكذا كانت حياة أحد من يتهمهم الجهال بتاريخنا أنهم كانوا “طغاة لا هَم لهم سوى فرض السيطرة وإخضاع الشعب ونهب ثرواته”!
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم.

