ليبيا اليوم في غياب المناضل الوطني عمر المختار ورفاقه غارقة في الفوضى والميليشيات والتشظي السياسي، فكم هي أحوج لعودة المختار لانتشالها من فوضى أبنائها الذين فتنتهم السلطة والمال وجعلوا منها بلد الجحيم، وحولها بعضهم إلى محطة ترانزيت ينهب من ثروتها ويعبث بها ثم يفر هارباً محمياً بجواز سفر أوروبي أو أميركي كان قد حصل عليه أو اشتراه بمال الليبيين.
فساد السلطة والمال وضياع الروح الوطنية عند أغلب السياسيين المتصدرين للمشهد والهاربين منه، أمور جعلتنا نستذكر عمر المختار في ذكرى استشهاده في صباح الأربعاء 16 سبتمبر (أيلول) من عام 1931، حيث تم تنفيذ حكم الإعدام بحق الشيخ المجاهد، الحكم الصادر عن المحكمة الصورية التي أمر بها الجنرال رودولفو غراتسياني، الذي قال في المختار حين أسره: «يُخيل لي أنَّ الذي يقف أمامي رجلٌ ليس كالرجال: له منظره وهيبته رغم أنَّه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقفٌ أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوتٍ هادئ وواضح».
هذه كانت كلمات رددها وكتبها الجنرال غراتسياني في كتابه «برقة المهدأة» واصفاً لقاءه الأول بعمر المختار، فقال: «لماذا حاربت بشدَّة متواصلة الحكومة الفاشيَّة؟ فأجاب المختار: من أجل ديني ووطني»، فغراتسياني لم يتوقف عن الإشادة لدرجة الغزل، بعدوه عمر المختار، فوصفه غراتسياني بالشجاع والذكي، وقال فيه أيضاً: «إن ذنبه الوحيد أنه كان يكرهنا كثيراً»، فعُمر المختار وصفه الكاتب الإيطالي كانيڤار بالقول: «وصل عُمر المُختار مكان الاجتماع محاطاً بفرسانه كما يصل المُنتصر الذي جاء ليملي شروطه على المغلوب».
وكان قد سبق لغراتسياني قد أعلن عن جائزة قدرها 200 ألف فرنك لقاء جلب المختار حياً أو ميتاً، إذ إن المختار قد حارب الاستعمار الإيطالي حتى قبل ظهور الفاشية في إيطاليا، بعد أن تخلت الدولة العثمانية عن ليبيا وتركتها للمستعمر الإيطالي، فكان قدر المختار قيادة رفاقه لتحرير بلاده وصد الغزو.
المستعمر الإيطالي الاستيطاني حاول نزع شعب من أرضه، واستبدال آخر جلبه من وراء البحر به، لتحقيق أكذوبة أن ليبيا هي الشاطئ الرابع لروما، المصطلح الذي أطلقه الزعيم الفاشي موسوليني. فليبيا تعرضت لأبشع عملية إبادة وسجن جماعي لسكانها، بعد أن زج بهم السفاح رودولفو غراتسياني في معتقلات جماعية، وهي أبشع عملية إبادة لشعب خلف أسلاك شائكة في العراء في الصحراء، حيث العطش والجوع.
أبناء ليبيا اليوم في غياب عمر المختار، استخدموا حلفاً عسكرياً بحجم الأطلسي في إسقاط الدولة وإحداث تغيير مسلح، من دون تغيير ديمقراطي حقيقي، فحتى المجلس الانتقالي أعضاؤه غير منتخبين، والإعلان الدستوري كتبه غير المنتخبين وفصلت مواده على مقاس جماعة مؤدلجة كانت تسيطر على ثلثي أعضاء المجلس الانتقالي عام 2011، في ظل صمت دولي على استفراد طيف واحد بكتابة دستور مؤقت لا يزال يعرقل الحياة السياسية حتى اليوم، وذلك بعد مضي أربعة عشر عاماً من عمر «ثورة» فبراير.
فالمواطن الليبي الغارق في الدين والفقر والعوز والمرض، في حين أن بلاده تطفو على أكبر بحيرة نفط وماء في أفريقيا ولا يستفيد منها شيئاً، إضافة إلى الفساد الحكومي المستشري والمتكرر والنهب للمال العام، يحق له أن يختفي عن الساحة في ذكرى استشهاد عمر المختار الذي انتزع له حرية بلاده من المستعمر، حيث مرغها اليوم ثلة من أبنائه الفاسدين في وحل ومستنقع الفساد السياسي.
ولعل من مسببات فشل الحل في الأزمة الليبية، التدخل الخارجي والإقليمي، وغياب أي خريطة حل من جانب البعثة الدولية للأمم المتحدة، التي مارست عمليات الترحيل المتعمد لأماكن الحوار، كما استخدمت عبر مبعوثيها عملية تفتيت الأزمة وإغراقها في الفرعيات حتى أغرقتها في مستنقع كيسنجر للمفاوضات، وتبدل المبعوثين الدوليين. كما أن من أسباب فشل الحل استبعاد شخصيات وطنية فاعلة، فحوار جنيف مثلاً كانت فيه شخصيات جدلية بعضها متهم بالإرهاب، بل وصدرت في حقهم مذكرات ملاحقة دولية، وهنا يكمن الفشل في تعاطي البعثة الدولية مع أجندة الحل في ليبيا.
غياب شخصية ومبادئ عمر المختار ورفاقه في ليبيا اليوم جعل البلد ساحة للفوضى والتشظي السياسي والتدخل الأجنبي الذي طرد من ليبيا في الزمن الماضي بكفاح الأجداد ولكنه عاد بسبب خذلان وتقاعس بعض الأحفاد، ورغم كل ما يحدث ما زالت الثقة في عودة ليبيا وخروجها من حالة الفشل والانهيار قائمة ما دام هناك وطنيون.

