في مقالتي السابقة تحدثت عن التراث العربي وعن موقفنا منه وتعاملنا معه؛ وذلك لأن أوضاعنا الثقافية الراهنة تشغلنا كما شغلت من سبقونا في القرنين الماضيين، ولا تزال تشغلنا حتى الآن وتطرح علينا أسئلة نحتاج لأن نجيب عنها لنتبين مكاننا في هذا العالم، وأي طريق نسلك وكيف نتصور المستقبل الذي نراه جديراً بنا، وما الذي نطلبه فيه. وإذن فنحن في أشد الحاجة لنتزود بالثقافة التي تمكننا من التقدم والوصول إلى ما نبتغيه. وهذه هي قضيتنا الأولى وشغلنا الشاغل منذ بدأنا نهضتنا الحديثة التي أدركنا ونحن نخطو أول خطوة فيها أن بيننا وبين العصور الحديثة مسافة زمنية فاصلة لا تقل عن خمسة قرون توقفنا عن التقدم، وعلينا أن نقطع هذه المسافة بكل ما أوتينا من قوة وعزم وإرادة لنمتلك المعارف والأدوات والمؤسسات التي لا نستطيع بدونها أن ننتقل إلى المستقبل أو نحقق ما نريد في عالم يتطور كل يوم ويتغير، ونحن نسعى فيه جاهدين لنعرف مكاننا الذي يتيح لنا أن نتواصل مع غيرنا، وأن نظل مع ذلك مرتبطين بأصولنا أوفياء لتاريخنا. لهذا بدأت هذا الحديث بالمقالة السابقة التي تحدثت فيها عن تراثنا الثقافي الذي يجب أن نعرف له حقه حتى نتمكن من الإضافة إليه، فنحن لا نبدأ من فراغ، وإنما نستأنف السير في طريق بدأناه في الماضي، وأسسناه على كل ما حققناه في تاريخنا العريق، وأنشأنا فيه عالماً وبنينا حضارة أنتجنا فيها ثقافة عبرنا فيها عن أنفسنا، وجعلناها ملكاً للجميع. وها نحن ننهض في هذا العصر وفي خزائننا وخزائن العالم من ثقافتنا القديمة هذه تراث باذخ وأساس راسخ ننطلق منه لنستكمل ما بدأناه ونصل إلى المستقبل المأمول، ومن هنا تظهر حاجتنا لثقافة جديدة نلبي بها حاجاتنا الجديدة، نستلهمها من قيمنا ومثلنا العليا من ناحية، ومن حقائق العصور الحديثة واستكشافاتها من ناحية أخرى، لتكون تطوراً لا انقطاعاً. وهذا هو الشرط الذي تكون به هذه الثقافة إضافة لتراثنا الحي تنتمي لنا، وإن كانت مستلهَمة مما هو مشترك في الثقافات الإنسانية.
***
وهذه ليست التجربة الأولى التي نحتاج فيها لثقافة جديدة نعرف بها الكون والطبيعة والمجتمع، ونجيب بها عما يطرحه الواقع والوقت من أسئلة، وإنما سبقتها تجارب الماضي التي دخلناها حين اتسع العالم أمامنا ووجدنا أنفسنا أمام ثقافات تمتلك ما لم نكن نمتلكه، وتعالج ما أصبحنا نواجهه من مشكلات، وتلجأ في ذلك إلى التجربة العلمية من ناحية، وإلى العقل من ناحية أخرى، أي تلجأ للإنسان الذي منحه الله طاقات ومواهب تمكنه من النظر في العالم واكتشاف ما فيه، وفهمه بحواسه وعقله. وهذه هي الثقافة التي كان العرب المسلمون في حاجة إليها ليستكملوا بها ما ورثوه من أسلافهم، وما تلقّوه عن طريق الوحي. ثقافة عقلية أضافوها لثقافتهم الموروثة من عصورهم الأولى، ومن ثقافتهم الدينية. وهكذا عرفوا الفلسفة وأضافوا إلى ما ترجموه من فلسفة اليونان ما اجتهدوا في الوصول إليه ليضعوا أيديهم على ما يتفق فيه العقل والنقل.
وهكذا أظهر المؤرخون العرب، والجغرافيون العرب، والأطباء، والفلكيون، والمشتغلون بالرياضيات، وسواهم ممن استطاعوا أن يعرفوا هذه العلوم ويضيفوها لثقافتهم الموروثة، ويصلوا بها في العصور الماضية إلى الذروة المتمثلة في ابن خلدون الذي جمع في فكره وفي سلوكه بين الحكمة والشريعة، وبين المعرفة العلمية الواسعة والتقوى كما جاء في كلام الذين أرّخوا للفكر العربي. فهو في السلوك أشعري يعتقد أن العقل الإنساني لا شأن له بما وراء الطبيعة، أما في نشاطه العلمي والفكري فهو معتزلي يعتمد على العقل والمنطق وطبائع الأشياء المحسوسة.
هذه الثقافة الجديدة التي اكتسبها العرب في العصور التي ازدهرت فيها حضارتهم واستكملوا بها ما ورثوه أُهملت في العصور التالية، واعتُبرت علوماً دخيلة، واختُزل التراث العربي فيما يستطيع العرب أن يؤدوا به واجباتهم الدينية.
***
ونحن في هذه الأيام نكرر ما صنعناه منذ ألف عام. نحتاج للعلوم الحديثة في كل مجالات حياتنا، ونسعى في تحصيل ما نحتاج إليه بالترجمة، والتعليم، والتجريب، والاجتهاد. ونصل في سعينا هذا إلى نتائج يعترف بها العالم، ويمنح جوائزه لمن حصّلوها كما فعلوا مع أحمد زويل ومع غيره من الأفذاذ الذين احتضنتهم الجامعات والمؤسسات الأخرى في العواصم الغربية؛ لأنهم لم يجدوا في وطنهم ما وجدوه في الخارج، ولأننا لا نزال منقسمين كما كنا قبل ألف عام. أقلية تدعو للعقل، وأكثرية تلوذ بالنقل. أما الذين استطاعوا التوفيق بين العقل والنقل كما فعل ابن رشد وابن خلدون في الماضي، والإمام محمد عبده وتلاميذه في هذا العصر فهم جماعة محدودة.
وفي القرن الماضي، القرن العشرين، كانت المناظرات والمعارك الفكرية تدور بين أنصار العقل وأنصار النقل، ومعهم فريق كان مع تسليمه بحاجتنا للعقل يدافع عن العاطفة ويرى أن لها مكاناً في حياتنا وفي إنتاجنا الثقافي يجب أن نسلم به. ومن هذا الفريق الشعراء الرومانتيكيون الذين ظهروا في النصف الأول من القرن الماضي ودارت بينهم وبين الشعراء الكلاسيكيين معارك منها ما كان بين عباس محمود العقاد والشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي.
العقاد كان يرى أننا في أشد الحاجة للإبداع. والإبداع لا يتحقق إلا بباعث، هذا الباعث هو روح المغامرة وإرادة الخلق والاكتشاف. أما الزهاوي فيقول: «أنا مادي لا أرى غير الحواس أبواباً للمعرفة ولا آذن للخيال أو العاطفة أن يلجا باب الشعر إلا إذا اطمأننت إلى أنهما لا يفسدان وجه الحقيقة التي ما زلت أتغنى بها في شعري».
***
والأسئلة لا تزال معلقة لم نصل فيها إلى جواب يقنعنا ويدفعنا للنشاط والعمل. ومع ذلك توقفنا عن مناقشتها والوصول فيها إلى إجابات نفكر فيها، ونعرف نتائجها. وهو وضع يحتاج لتفسير.

