يعانى أولادنا من انفصال كامل عن ثقافتهم الأصلية، فعلى مدار عشر سنوات تقريبا يدرس أبناؤنا فى المدارس الابتدائية ثم الإعدادية ثم الثانوية مقرر التاريخ المصرى والعربى منذ العصور القديمة حتى التاريخ المعاصر، في مناهج تركز على التاريخ السياسي، الدول والحكام والأحداث الجسام الكبرى التي أثرت في مجرى هذا التاريخ، ليعرفوا مينا وأحمس ورمسيس وعمرو بن العاص ومحمد علي وجمال عبد الناصر، وليلموا بالفترات التي كانت فيها أرض مصر محتلة أو حرة، وكيف شارك شعبها في تحريرها من أكثر من محتل على مدار التاريخ.
وبافتراض نجاح هذه المقررات في أداء مهمتها ليصبح الطالب ملما بالتاريخ السياسي لمصر عبر فتراته جميعها، فماذا إذن عن التاريخ الاجتماعى والاقتصادى، لماذا لا يعرف أولادنا منجزنا الحضارى؟ وكيف أسهمنا على مدار تاريخنا في بناء العالم؟
من هنا يجدر النظر في إمكانية وجود مقرر عن الحضارة المصرية منذ بدء التاريخ حتى الآن، وأعنى بالحضارة كل ما يدخل فى نطاق فعل الإنسان، من لغة وأدب وفنون وعلوم، وعمارة وزراعة وتعليم ومناحي الحياة كافة، وهنا لا أطمح إلى أن يكون لدى هؤلاء الطلاب معرفة كاملة بهذه المكونات الحضارية لكن على الأقل ما يمكن أن يوازي التاريخ السياسي، فمن حق الأجيال الجديدة أن تعرف كيف تطورت الأسرة المصرية وكيف تطور المجتمع المصري عبر التاريخ.
يمكن أن يكون تقسيم هذا المقرر معتمدا على سنوات الدراسة ليبدأ في المرحلة الابتدائية بتعليم بعض مبادئ اللغة المصرية، والأدب المصري القديم، ثم بعض المعلومات عن الأسرة المصرية والمجتمع وعاداته وتقاليده والمناسبات المجتمعية، ليتطور الأمر في المرحلة الإعدادية لدراسة بعض العلوم التي برع فيها المصريون القدماء مثل العمارة والهندسة والرياضيات، مع وجوب دراسة المعتقدات الدينية لدى أجدادنا لتصحيح كثير من المفاهيم التي ترسخت لدينا من خلال رؤية علماء المصريات الأجانب.
كما يجب أن يتطور هذا المقرر في الجامعة، ليدرس كل طالب جامعي أهم الإسهامات المصرية في تخصصه، فيدرس طالب الطب علم التشريح والجراحة المصري، وكيف اخترع المصريون أدوات للجراحة لم تزل تستخدم حتى الآن، وكيف برعوا في العلاج التعويضي، ويدرس طالب الهندسة الإسهام المعماري المصري مثلا، وطالب الفنون يدرس النحت المصري المتطور، وهكذا في العلوم الزراعية والكيمياء والفيزياء والأدب، إلى آخر ذلك مما يجعل كل طالب واعيا بمقدار الإنجاز المصري القديم وأثره في الحضارة المعاصرة، وليعلم أنه يستطيع أن يبني على هذا الإنجاز الآن لأنه مرتبط به تاريخيا وعضويا.
وهو الأمر الذى يجب دعمه عن طريق مشروعات ثقافية تستهدف تنمية الإحساس بالجذر المصري الثقافي وذلك عن طريق الندوات والرحلات التثقيفية ثم المسابقات الثقافية المرتبطة بهذه المكونات الحضارية وهو ما لا يجب أن يتوقف عند القشور أو العناصر المشهورة بل يجب أن يتعداها إلى مفهوم الثقافة المصرية القديمة وامتداداتها في حاضرنا وكيفية إسهامها في مستقبلنا.
ليست المسألة إذن مجرد مقرر علمي جديد، أو حتى مشروع مستقل فقط، لكنه في الأساس تنمية للوعي بالذات الجمعية وقدرتها على استعادة الفعل، وليست المسألة صعبة فلدينا من العلماء المصريين الذين برعوا في علم المصريات وقدموه برؤية مصرية ممن يمكن الإفادة من مؤلفاتهم في هذا الاتجاه.
لا يحتاج منا الأمر سوى إيمان بأهمية الفكرة وإرادة حقيقية لتنشئة جيل جديد يبني مستقبله ويشارك في مستقبل العالم وهو مؤمن بقدرته على الفعل.