في كل مرة يعاد فيها بث أغنية "نحن العالم" (We Are the World) تستحضر لحظة رمزية من تاريخ الموسيقى الأميركية ارتبطت بمأساة المجاعة في إثيوبيا عام 1985، حين شارك أكثر من 40 من أبرز فناني الولايات المتحدة في مشروع غنائي إنساني جمع عشرات الملايين من الدولارات لدعم جهود الإغاثة.
وبعد نحو أربعة عقود، تتكرر مشاهد الجوع في قطاع غزة نتيجة الحصار والنزاع المسلح، إذ توثق تقارير دولية وفاة أطفال بسبب نقص الغذاء والرعاية الصحية. وعلى رغم وجود تحركات إنسانية وثقافية حاولت لفت الانتباه إلى معاناة السكان في غزة، مثل القوافل البحرية كسفن "الحرية" و"حنظلة"، والمساعدات الجوية التي أسقطتها بعض الدول عبر المظلات، فإن الاستجابة الثقافية الدولية ما زالت محدودة، مقارنة بالحملة الفنية الكبرى التي شهدها العالم في منتصف الثمانينيات.
صوت الجوع
في شتاء عام 1985، وفي لحظة تعد من أكثر اللحظات رمزية في تاريخ الموسيقى الأميركية، اجتمع أكثر من 40 من أشهر نجوم الغناء في العالم الغربي تحت سقف واحد، داخل استوديو صغير في هوليوود، لتسجيل أغنية واحدة، مدفوعين بهدف إنساني مشترك: محاولة إنقاذ شعب إثيوبيا من مجاعة مدمرة كانت تحصد الأرواح في صمت، بينما تنقل الكاميرات العالمية صورها إلى كل زاوية في العالم.
قال مايكل جاكسون في حوار نادر "كنت أكتب الأغنية وأنا أسمع بكاء الأطفال في رأسي".
الأغنية التي حملت عنوان "نحن العالم" (We Are the World)، جاءت ثمرة تعاون استثنائي بين مايكل جاكسون وليونيل ريتشي في كتابة الكلمات، والمنتج كين كراكن، الذي لعب دوراً محورياً في تحويل الفكرة إلى مشروع واقعي. وشارك في إنتاجها كل من كوينسي جونز ومايكل أومارتيان، بدعم معنوي كبير من الفنان والناشط الحقوقي هاري بيلافونتي، الذي كان أول من طرح فكرة جمع نجوم أميركا في مشروع غنائي خيري، مستوحى من الحملة البريطانية السابقة بعنوان "هل يعلمون أنه عيد الميلاد؟".
اتركوا غروركم عند الباب!
جرى تسجيل الأغنية في الـ28 من يناير (كانون الثاني) 1985، بعد ساعات فقط من انتهاء حفلة توزيع جوائز الموسيقى الأميركية، في محاولة لضمان حضور أكبر عدد ممكن من النجوم الذين جرى انتقاؤهم بعناية شديدة.
المنتج الموسيقي والمشرف العام للأغنية الإنسانية كوينسي جونز علق على باب الاستوديو لافتة كتب فيها "اتركوا غروركم عند الباب"، وكان ذلك ضرورياً في ليلة جمعت بين ستيفي وندر وبروس سبرينغستين وبوب ديلان وديانا روس وراي تشارلز وبيلي جويل وسيندي لوبر وآخرين، بعضهم لم يلتق بعضاً من قبل، وآخرون لم يتبادلوا كلمة واحدة إلا عبر الأضواء.
إنجازات ضخمة
كلمات الأغنية بدت بسيطة لكنها عاطفية، تتحدث عن لحظة حاسمة في التاريخ تدع!و فيها الإنسانية إلى الاتحاد، من دون أن تذكر اسم إثيوبيا أو أفريقيا صراحة.
هذا الحذر اللغوي كان جزءاً من استراتيجية إنتاجية تهدف إلى ضمان الانتشار العالمي للأغنية، من دون الاصطدام بحساسيات سياسية أو نزاعات بين دول.
الأغنية طرحت رسمياً في السابع من مارس (آذار) 1985، وكان تأثيرها آنياً ومباشراً، إذ بيعت أكثر من 800 ألف نسخة في الأيام الأولى فقط، وتجاوزت المبيعات لاحقاً 20 مليون نسخة، لتصبح واحدة من أكثر الأغاني مبيعاً في التاريخ.
وحصلت الأغنية الإنسانية على ثلاث جوائز غرامي، بينها جائزة "أغنية العام" و"أفضل أداء جماعي"، لكنها أثارت جدلاً طويلاً حول دور الفن في الشأن الإنساني.
وفقاً لتقارير صادرة عن منظمة "الولايات المتحدة من أجل أفريقيا" (USA for Africa)، وهي الجهة التي أنشئت خصيصاً لإدارة التبرعات، فقد جمعت الأغنية ما يقرب من 63 مليون دولار أميركي، وهو مبلغ هائل آنذاك، يعادل اليوم أكثر من 180 مليون دولار بعد احتساب التضخم.
مساعدات تحولت إلى سلاح
لكن هل وصلت الأموال إلى من يستحقها؟ وهل أنقذت الأغنية فعلاً الأرواح التي غنت لأجلها؟
هنا تبدأ القصة في التبدل، فبعد أشهر من التوزيع ظهرت تقارير استخبارية وإعلامية تشير إلى أن جزءاً من المساعدات التي جرى جمعها صودرت من النظام الإثيوبي بقيادة مانغيستو هيلا مريام، واستخدمت لدعم مجهوداته العسكرية ضد تيغراي وإريتريا.
"صحيفة نيويرك تايمز" نشرت تحقيقاً موسعاً في ديسمبر (كانون الأول) 1986، يؤكد أن طائرات الشحن الأميركية التي كانت تحمل مساعدات إنسانية غذائية، كانت أحياناً تستخدم لتهريب أسلحة في الاتجاه المعاكس من أوروبا الشرقية.
كما ذكر تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في عام 1988 أن ملايين الأطنان من المساعدات الغذائية كانت تخزن في مخازن الحكومة الإثيوبية، بينما يستمر عرض صور الأطفال الجوعى على شاشات التلفزيون.
مركز "البنك الأفريقي للتنمية" نشر بعد مرور عقد على الكارثة تقييماً لبرامج الإغاثة الطارئة التي جرت في إثيوبيا والسودان، وخلص إلى أن 60 في المئة من المساعدات المرسلة لم تكن مستدامة، وأن تأثيرها الفعلي اقتصر على فترات قصيرة الأمد، في حين لم تسهم في تغيير البنى الزراعية أو الصحية التي تسببت في المجاعة من الأساس.
ثقافة فارقة
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن أغنية "نحن العالم" شكلت سابقة ثقافية فارقة في تاريخ الموسيقى والعمل الإنساني. فقد ألهمت عشرات المبادرات الفنية المشابهة في السنوات التالية، من بينها حفلات "لايف إيد" عام 1985، وأغنية "Voices That Care" التي صدرت خلال حرب الخليج، ومبادرة "Hope for Haiti Now" عام 2010.
كما أعيد تسجيل الأغنية نفسها في نسخ لاحقة، كان أبرزها نسخة عام 2010 التي جاءت استجابة لزلزال هايتي المدمر، وشارك فيها فنانون من الجيل الجديد مثل بيونسيه وجاستن بيبر وجوش غروبان. ومع ذلك، تبقى النسخة الأصلية التي ولدت في استوديوهات هوليوود عام 1985، هي الأكثر رسوخاً في الذاكرة الجماعية، والأقرب إلى وجدان الناس حول العالم.
وبينما لا تزال كلمات الأغنية تتردد في أذهان ملايين، وتستخدم كأداة تعليمية للتضامن والتعاون، تبقى المجاعة في أفريقيا قائمة، وإن تغيرت وجوهها. وربما كان أهم ما تكشفه "We Are the World" اليوم ليس ما حدث عام 1985، بل ما لم يتغير حتى الآن.
فلم وثائقي
في الذكرى الـ40 تقريباً لأغنية "We Are the World"، يسلط وثائقي جديد بعنوان أعظم ليلة في موسيقى البوب (The Greatest Night in Pop) الضوء على الكواليس غير المعروفة لليلة واحدة صنعت واحدة من أشهر الأغاني الخيرية في التاريخ. من خلال لقطات أرشيفية ومقابلات جديدة مع ليونيل ريتشي وبروس سبرينغستين وسيندي لو

