ما زلنا مع الحديث عن حضارة أجدادنا المصريين القدماء وتفاعلنا معها.. فأرجو من القارئ العزيز مراجعة المقالين السابقين.
لماذا يتشنج البعض كلما أبدينا اعتزازنا بالحضارة المصرية القديمة وتراثها؟
دعونى أعرض عليكم أربعة مشاهد قبيحة:
المشهد الأول:
فى عام 2011، قام شخص سلفى شهير، ومرشح – آنذاك – فى الانتخابات البرلمانية عن حزب سلفى، اعتاد أتباعه تلقيبه بـ «الشيخ»، بمهاجمة الحضارة المصرية القديمة، واصفا إياها بـ “الحضارة العفنة”!
لماذا يا “شيخ” تصف حضارة أجدادنا بهذا اللفظ الفظ المهين؟ الإجابة: “لأن أصحاب هذه الحضارة لم يكونوا مسلمين ولم يطبقوا الشريعة”!
حسنا.. سيداتى وسادتى.. أقدم لكم عبقريا “فظا” من نوعه، يبدى استياءه من عدم تطبيق الفراعنة للشريعة الإسلامية رغم وجود حقيقة يعرفها أى طفل فى المرحلة الابتدائية هى أن عشرة قرون تقريبا تفصل نهاية الحضارة المصرية القديمة وميلاد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام!
هذا فضلا عن أن علة توجيهه هذا السباب لأعظم حضارة فى التاريخ القديم – عدم تطبيق الشريعة الإسلامية – تعنى أن وصف “العفنة” يمتد ليشمل أية حضارة غير مسلمة منذ عصور ما قبل التاريخ حتى نهاية العالم، بكل ما قدمت للعالم من فكر وعلوم وفنون وآداب وأخلاق! بل لعله يشمل بعض النماذج الحضارية الإسلامية التى لا تنطبق عليها كراسة الشروط والمواصفات الخاصة به!
المشهد الثانى:
نفس “الشيخ” – وهؤلاء القوم يطلقون هذا اللقب غالبا على كل من أطلق لحيته الشعثاء – أعقب تصريحه سالف الذكر بتصريح لا يقل عبقرية، أنه لا يفخر بحضارة المصريين القدماء، وأنه يطالب بتغطية تماثيلهم العارية! وهنا يعف لسانى عن ذكر رد فعلى التلقائى عند قراءة هذا التصريح.
أرجو من القارئ العزيز التزام الصمت وإرهاف سمعه والإنصات، هل تسمع صوتا ما؟ لا؟ حسنا، كنت أحاول معرفة ما إذا كان الفراعنة يبكون فى مقابرهم حزنا على أن الشيخ لا يفخر بحضارتهم.
ماذا عن مطالبته بتغطية تماثيلهم لأنها عارية؟ الحق يقال إن الغيرة على الحشمة لا يغضب أهل الاحترام، لا بد من تغطية العورات ولهذا أطالب بتغطية الشيخ نفسه هو وأشباهه حفاظا على الآداب العامة.
المشهد الثالث:
بينما كان المصريون يبتهجون فخرا بالنجاح المبهر لموكب المومياوات الملكية، ويتلقون تهنئات العالم بهذا الحدث الجليل، كان لـ«أحدهم» رأى آخر.
و”أحدهم” هذا هو ممن يحملون لقب “شيخ”، ويشتهر بعشق “التريند” حتى أننى أستمحى الشاعرة الخنساء عذرا أن أستعير أحد أبيات قصيدتها الرائعة فى رثاء أخيها صخر، فأقول عن هذا الـ “أحدهم” إنه:
وإن ذُكِرَ التريند ألفَيتُهُ.. تأزَّرَ بالتريند ثم ارتَدَى
“أحدهم” هاج وماج وراح يبعثر المنشورات من نوعية “نحن عرب! نحن مسلمون! نحن نعتز بعروبتنا وإسلامنا!”
سبحان الله، وهل دسنا على طرف لعروبتك أو إسلامك؟ وهل نسيت فى خضم ركضك اللاهث وراء التريند أن العروبة والإسلام من المكونات الحضارية لثقافة وحضارة المجتمع المصرى عبر العصور، كما أن التراث المصرى القديم هو من مكوناتك الحضارية والثقافية أنت وكل المصريين، شئت أم أبيت؟
ثم إن مما تعلمته من الحياة، أن الشعور بالتحسس من إبداء قوم الاعتزاز بتاريخهم، إنما ينم عن الهشاشة الفكرية للمتحسس، فهل أستنتج من ردة فعلك تلك أنك ترى أن مكوناتك الإسلامية والعربية هشة إلى حد أن إبداء الاعتزاز بالمكون الفرعونى يهددها؟
المشهد الرابع:
بعد نفس الحدث الكبير – موكب المومياوات الملكية – ارتفع صوت شاب إخوانى ممن يعيشون بالخارج ويلعبون دور قارعى الطبول للعثمانيين القدامى والجدد، راح هذا الشاب يهاجم الحدث والمحتفين به، ثم أتحفنا بتصريح مبهر هو: أننا لو قمنا بعمل تحليل الحامض النووى DNA للمصريين المعاصرين، فسنكتشف أنهم منقطعو الصلة بالمصريين القدماء، وبالتالى فإن اعتزازنا بهم هو أمر عبثى غير معقول!
مبدئيا أدعو الله أن يرزقنى رُبع الثقة العلمية التى يتحدث بها هذا الشخص عن الـ DNA وعلاقتنا بالمصريين القدماء، وأحمده أن عفانا مما ابتلى به غيرنا من جرأة الجهل، لكنى أتساءل حقا عن سبب إحجام هذا الشخص عن اتخاذ نفس الموقف من الصورة الشهيرة لأردوغان وهو يهبط سلم قصره بين صفين من حرس الشرف الذين يرتدون أزياء حربية ترجع – كما قال – لست عشرة حضارة سابقة قامت فى تركيا، لماذا لم يتحفنا هذا الشاب برأيه عن الـDNA؟
لدى تفسير يتعلق بسلوك إنسانى مشين، لكن للأسف مرة أخرى، يعف لسانى!
النماذج السابقة هى مجرد أعراض لمرض أخطر يسعى أصحاب العقليات سالفة العرض – على تنوع انتماءاتهم – لنشره، مرض يصيب مراكز الهوية والانتماء فى الفكر والنفسية، ويصيبها بالفوضى والاضطراب ليؤسس “تركيبة” مختلفة للهوية، لكنها تركيبة غير سوية.
كيف يفعلون ذلك؟
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم.

