تواصل الدولة المصرية أداء دورها الإنساني والتاريخي الأصيل تجاه القضية الفلسطينية، مؤكدة أنها ستظل حاضرة بعقلانية القرار وشجاعة الموقف، وإرث من الالتزام القومي والأخلاقي، ففي الوقت الذي تخبو فيه بعض الأصوات، وتتعثر فيه المسارات تبقى مصر بوابة الأمل وممر النجاة، تتحرك بثبات واتزان، لإدخال المساعدات الإنسانية، وفتح الممرات الآمنة للمدنيين والأطفال المحاصرين في قطاع غزة، في مشهد إنساني نبيل يعكس ضمير الأمة وصدق الالتزام بقيم العدل والكرامة.
ويعد ما يقوم به بعض الأفراد من دعوات لإغلاق السفارات المصرية والتهجم على الدور المصري التاريخي والإنساني، فعل موجه وممنهج لا يصدر عن وعي بالأحداث ولا عن إدراك حقيقي لطبيعة الصراع، ويخدم بوعي أو بغير وعي أجندات تسعى لتشويه الثوابت وتفتيت الجبهة العربية من داخلها فهذه الدعوات لا تعبر عن ضمير الأمة، ولا عن الوجدان العربي الجمعي، ولا عن الشعوب الحرة التي تعرف جيدًا من يقف معها في المحن، ومن يتاجر بقضاياها.
وتقف مصر كما عهدناها في خط المواجهة السياسي والإنساني، بكل ما تحمله من تاريخ وما تبذله من جهود على الأرض لإغاثة الشعب الفلسطيني وتأكيد حضوره السياسي والتصدي لمحاولات تهجيره أو تصفية قضيته، لذلك فهي تستحق كل الدعم والإسناد والتقدير، وليس التشويه أو الإساءة كما أنه ليس من الإنصاف ولا من الحكمة أن تتحول بوصلة الغضب نحو من يفتح المعابر ويدير المفاوضات ويتحرك إنسانيًا حين يتقاعس الآخرون، إن استهداف مصر في هذا التوقيت الحرج لا يخدم غزة، ولكن يخدم إسرائيل.
والمسار الواجب والمجدي، في ظل هذه الكارثة المتصاعدة، هو الضغط الحقيقي الدولي والإقليمي، على إسرائيل ومساءلتها عن جرائم الحرب المتكررة بحق المدنيين وانتهاكاتها الصارخة للقانون الدولي الإنساني، وليس التهجم على الدول التي تسعى رغم التوازنات الدقيقة والضغوط الهائلة، للحفاظ على ما تبقى من أمل وعدالة وإنسانية في هذا العالم المضطرب.
ولو كانت هناك إرادة صادقة لنصرة غزة، فالأجدر أن تغلق سفارات الاحتلال في العواصم، وأن ترفع دعاوى حقيقية أمام المحاكم الجنائية الدولية ضد قادة الحرب، وأن يفعل مبدأ المحاسبة بدلاً من الصمت ولتتوقف صفقات التواطؤ التي تمنح المعتدي غطاءً وصمتًا وإفلاتًا من العقاب، فليس من البطولة أن نهاجم من يقف معنا ولا من الأخلاق أن نصمت على من يقتلنا، فالبوصلة الأخلاقية لا تخطئ الاتجاه، ومصر كانت وستبقى في الاتجاه الصحيح من التاريخ مهما تعالت أصوات التشويش وتبدلت أولويات المصالح.
وتتحرك مصر بكل أدواتها السياسية والإنسانية والدبلوماسية، تضع نصب عينيها أمن الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، وتؤمن أن الاستقرار والأمن الحقيقي يتحقق بإنهاء الاحتلال، ورفع الحصار، وعودة الحقوق إلى أصحابها وحل الدولتين وبهذا النهج تثبت الدولة المصرية أنها على مسافة واحدة من الجميع.
وتظل الدولة المصرية على عهدها التاريخي والإنساني تجاه القضية الفلسطينية، حاضرة بالفعل والموقف، وبالحكمة التي تجيد قراءة اللحظة والتعامل مع تعقيداتها، فمع تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والانهيار المتسارع في الأوضاع الإنسانية والتهديد المباشر لحياة المدنيين والتجويع الممنهج للأطفال والنساء، تؤكد مصر أنها لم تغب يومًا عن ساحة الفعل السياسي والإغاثي، وتواصل أداءها المتزن والفاعل، باعتبارها شريكًا أصيلًا وصاحب مسؤولية تاريخية خاصة في ظل عجز دولي متفاقم وتراجع ضمير إنساني عالمي، تبقى مصر صامدة في أداء دورها تتحرك على الأرض بما تمتلك من أدوات سياسية ودبلوماسية وإنسانية، حاملة لواء الحق ورافعة لصوت المستضعفين ودرعًا واقيًا أمام محاولات فرض واقع القهر بالقوة، أو تمرير خطط التهجير تحت غطاء الحرب والحصار وشرعنة الاحتلال تحت غطاء المتغيرات الإقليمية والدولية.
وقد وجهت القاهرة رسائل حازمة إلى المجتمع الدولي، مفادها أن استمرار العدوان لا يمكن أن يمر بلا تبعات، وأن التغاضي عن الجرائم المرتكبة في غزة يعد انهيارًا أخلاقيًا كاملًا لمنظومة القانون الدولي ومبادئ العدالة الإنسانية، ولم تكتفِ مصر بالتحركات الإغاثية والإنسانية، وواصلت اتصالاتها السياسية المكثفة مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، مطالِبةً بوقف فوري لإطلاق النار، وضمان وصول المساعدات دون عوائق، والبدء بمسار سياسي جاد يعيد للقضية الفلسطينية اعتبارها التاريخي، ويضع حدًا لحالة الاستباحة المستمرة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، وفي ظل هذه المعادلة المعقدة، تظل مصر حاضرة بالفعل وبالمبادرة وتبقى القضية الفلسطينية في قلب الضمير المصري، وفي صميم الأمن القومي، وفي مقدمة أولويات الدولة التي لم تفرط يومًا في واجباتها التاريخية، ولن تتخلى عن موقعها المتقدم في الدفاع عن الحق، مهما طال أمد المعاناة أو تعاظمت كلفة الموقف.
والقراءة المتأنية للمشهد الراهن تظهر أن مصر تمارس أدوارًا استباقية، تبادر وتطرح حلولًا ومبادرات، فمنذ نشأة القضية الفلسطينية لم تكن مصر يومًا بعيدة عن مشهدها، لا ميدانيًا ولا سياسيًا. خاضت الحروب دفاعًا عن الأرض والهوية، ورعت المفاوضات بحثًا عن العدالة، واستضافت جولات المصالحة بين الفصائل الفلسطينية إدراكًا منها أن وحدة الصف الفلسطيني شرطٌ لأي نهوض وطني حقيقي، فالموقف المصري يذكر بأن هناك دولًا لا تساوم على الثوابت، ولا تنجر خلف الابتزاز السياسي، ولكن تبني سياساتها على توازن بين الأخلاق والمصالح، وترى في فلسطين قضية إنسانية وأمنية تتقاطع فيها الحقوق والكرامة والسيادة.
وفي ظل المأساة الإنسانية الكبرى التي يعيشها قطاع غزة، بكل ما تحمله من دمار وتجويع وتنكيل جماعي، تؤكد مصر أن العروبة مسؤولية، وأن السيادة فعل تضامن وقيادة، ومن ثم تتقدم بخطى ثابتة نحو الفعل تأكيدًا على أن الضمير لم يمت، وأن الأصوات الحرة لا تزال قادرة على التأثير متى امتلكت الإرادة والحكمة والموقف، وتجدد الدولة المصرية اليوم التزامها التاريخي والوجداني بجذور القضية الفلسطينية، وتعلن أن فلسطين ستبقى في قلب مصر، فليست القضية عبئًا على القرار المصري، فهي جزء من نسيجه الحضاري ووعيه الوطني، وإحدى معاركه المستمرة من أجل العدالة والكرامة والحرية في هذا الشرق الجريح.
—
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر

