أحيانًا، نحب أشخاصًا دون أن نعرف تمامًا لماذا. نحبّهم بصمت، بعُمق، دون تنظير أو تحليل. ثم يأتي رحيلهم، كأنّه يدقّ جرس السؤال المؤجل: ما الذي جعل لهذا الغائب كل هذا الأثر؟
مع زياد الرحباني، السؤال لا يُطرح فقط لأنه رحل، بل لأنه كان حاضرًا في تفاصيلنا، في قلقنا، في أسئلتنا، في موسيقانا اليومية.
وحان الوقت أن نجيب… لماذا أحبّ الناس زياد الرحباني؟
الراحل زياد الرحبانى
لأنه رحل كما عاش… بلا ضجيج
رحل زياد الرحباني كما عاش.. على طريقته.
لم يهادن المرض، كما لم يهادن يوماً السلطة أو المجاملة أو الركود.
رفض العلاج الطويل، كأنه يختصر الحياة، كما اختصر المعارك التي لم تعد تشبهه.
لم يركض خلف الأضواء، بل مشت خلفه.
أحبّه الناس… لأنه كان يُشبههم، ويُشبه همومهم، ويغنّيها بلسانهم.
انسحب بهدوء من هذا العالم، وكأنّه يعتذر عن حفلة لم يرغب يوماً في حضورها، ليُكمِل صمته الأبدي الذي بدأه في مسرحياته، وأغنياته، وحتى في عزلته.
الفنان الراحل زياد الرحبانى
لأن المجد لا يُورث… بل يُخلق
لم يكن زياد مجرّد امتداد لعاصي الرحباني، ولا حتى ظلًّا لصوت فيروز.
كان ظاهرة فنية وفكرية، تفرّدت بطعمها الخاص، بمزاجها المتقلب، بصراحتها التي تصفع، وبموسيقاه التي تشبه بيروت في تناقضاتها.
في عمر السابعة عشرة، لحّن لوالدته أغنية “سألوني الناس”، وكانت تلك أولى إشارات الجنون الجميل الذي يسكن هذا الفتى.
لكنه لم يتوقّف عند باب البيت، بل صنع مسيرته الخاصة، وتمرد على التقاليد، وسار عكس السائد، باحثاً عن نفسه لا عن تصفيق الجمهور.
صورة الراحل زياد الرحبانى
لأنه غنّى لمن لا يُغنّى لهم.
غنى زياد للمتعَبين من السياسة، للحالمين بوطن، للغاضبين بلا صوت، وللعشاق الذين يعرفون أن الحب في بلاده نوعٌ من أنواع المقاومة.
غنّى عن القهر، عن الفقر، عن الطائفية، عن الكذب، عن التعب اليومي في شوارع بيروت، التي لا تنام على صوت ولا تستيقظ على أمل.
زياد الرحبانى
لأنه جعل الضحك فعلاً مقاوماً
في مسرحياته، لم يكن زياد يقدّم عرضاً فنياً، بل محاكمة يومية للواقع.
كان يضحكنا لنفكّر، ويبكينا لنفهم.
من “نزل السرور” إلى “فيلم أميركي طويل”، كان المسرح عنده أداة تفكيك، يهزّ بها البديهيات ويكسّر بها المسكوت عنه، ليصنع جمهوراً لا يصفّق فحسب، بل يواجه نفسه.
الراحل زياد الرحبانى ابن الفنانة فيروز
لأنه قال الحقيقة… دون أن يرتجف صوته
لم يلبس قناعاً، لم يقل ما يُراد سماعه، لم يسعَ إلى التجمّل.
قال ما كنا نخاف أن نقوله، وفكّر بصوت عالٍ حين كنا نكتفي بالصمت.
لم يخن فنه، ولم يخدع جمهوره، ولم يبع مواقفه في أسواق النجومية.
ظلّ وفياً لنفسه، ولبيروت، ولموسيقاه… حتى النهاية.
لأنه ترك لنا وجعه… وأغنيته
قد يغيب زياد عن هذا العالم، لكن صوته باقٍ في أذن كل من عرفه وأحبّه.
في لحظة غضب، نسمع “أنا مش كافر”.
في لحظة يأس، نستعيد “الحالة تعبانة يا ليلى”.
وفي لحظة وداع، تبكينا كلماته من “أغنية الوداع”، كأنه كتبها ليغادر دون ضجيج.
لأنه صمت… وانتصر
كان زياد، كما قال مرة:
“أنا ما عم جرّب أغيّر البلد، ولا عم جرّب أغيّر شي،
أنا عم جرّب بس ما خلّي هالبلد يغيّرني،
هايدي وحدا إذا بتزبط معي انتصار… انتصار لنفسي أولاً، وبعدين على شو ما بدّك.”
وقد انتصرت، يا زياد.
انتصرت على التصنّع، على الزيف، على الرداءة.
غادرت في زمنٍ خذل فيه الفنّ والفكرة كثيرين، وبقيت وحدك صادقاً حتى النهاية.
سلام لروحك… وسلامٌ لموسيقى كانت تشبه الحقيقة.
وداعا زياد الرحبانى

