إلى زمن قريب، كنا نسمع عن عسكرة الهجرة، حيث إن الدول الأوروبية تصرف المليارات سنوياً على الأبحاث وتطوير تكنولوجيات أمنية، بخاصة لفائدة مشاريع إدارة الحدود؛ وبدأت دول الاتحاد تستعمل طائرات مسيّرة وأجهزة مراقبة تحت-مائية ورادارات ثلاثية الأبعاد وآلات استشعار متطورة لرفع مستوى الأمن على حدودها الخارجية، إلى درجة أن بعض الخبراء في الشؤون الأوروبية يقولون إن التكنولوجيا تجعل المناطق الحدودية أكثر خطورة على الأشخاص… إنها تفاقم العنف وتمنح حرس الحدود سلطة كبيرة.
كما أن عدداً من الدول الأوروبية تلجأ إلى الذكاء الاصطناعي لمراقبة أكبر مدنها لمتابعة المهاجرين غير المسجلين وغير القانونيين والقبض عليهم، كاليونان التي اعتمدت آلات تشبه الهواتف الجوالة، زودت ضباط الشرطة بها، تساعد على التعرف إلى الوجوه وتحليل بيانات البصمات… بمعنى أن المهاجرين يعيشون بين عسكرة المراقبة الداخلية والخارجية لمنع وصولهم إلى أوروبا أو لطردهم من هناك، موازاةً مع التطوير اليومي للذكاء الاصطناعي في خدمة هاته العسكرة.
أما ما يجري اليوم من أحداث ووقائع في البيئة الأمنية الدولية، فيمكننا من الحديث عن عسكرة السياسة؛ فها هو الرئيس الفرنسي يتحدث منذ أيام عن خطة لتسريع وتيرة الإنفاق الدفاعي للبلاد، حيث ستزيد الميزانية العسكرية التي بلغت 32 مليار يورو في عام 2017 إلى 64 مليار يورو بحلول 2027، مع تخصيص 3.5 مليار يورو إضافية للعام المقبل وثلاثة مليارات يورو أخرى في عام 2027، ويأتي هذا التوجه الاستراتيجي في الوقت الذي تعاني فيه فرنسا من أزمة مالية كبيرة وتسعى لتوفير 40 مليار يورو في ميزانية 2026؛ كما أعلن رئيس الوزراء البريطاني عن أكبر زيادة مستدامة في الإنفاق الدفاعي منذ نهاية الحرب الباردة، حيث سترفع الميزانية المخصصة لخدمات الأمن والاستخبارات الإنفاق الدفاعي الإجمالي إلى 2.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مع هدف زيادة هذه النسبة إلى 3 في المائة اعتباراً من 2029، ونفس التوجه نجده في ألمانيا.
ماذا يقع بالضبط؟
القارة العجوز خائفة من المستقبل الذي تطبعه سمات أربع: التوجس، الغموض، المجهول، اللايقين، وقد صرح بذلك الرئيس الفرنسي مؤخراً في خطابه التقليدي أمام القوات المسلحة عشية العيد الوطني الفرنسي: «نعيش في زمن اضطرابات، رأينا منذ فترة طويلة اقترابها. هذه الاضطرابات أصبحت الآن واقعاً… فالنظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية أصبح محل نزاع وإضعاف متزايد»، و«بما أنه لم تعد هناك قواعد، فإن قانون الأقوى هو الذي يسود».
الدول المحورية الأوروبية لم تعد تثق في التحالف الاستراتيجي العسكري مع أميركا، وتؤمن بأن ما يجري في أوكرانيا منذر بمستقبل قد يضغط فيه على الزر النووي من جانب روسيا؛ فلكي تُهاب وتنجى، يجب أن تكون قوية ورادعة، كما أنها بدأت تعلن صراحة أن زمن القانون الدولي قد ولَّى عندما تتبارز داخل حلبة الصراع القوى الدولية وبالأخص تلك التي تتوفر على السلاح النووي. فبدأنا نسمع عن بناء مظلة نووية أوروبية مستقلة وعن إمكانية توسيع المملكة المتحدة وفرنسا نطاق مظلاتهما النووية لحماية حلفائهما الأوروبيين في عالم تملك فيه الولايات المتحدة وروسيا الغالبية العظمى من الرؤوس النووية في العالم، حوالي 90 في المائة… فروسيا تملك 5459 رأساً نووياً، بينما تملك الولايات المتحدة حوالي 5177 رأساً نووياً؛ في حين يظل عددها في الدولتين النوويتين الأوروبيتين محدوداً، فالمملكة المتحدة تتوفر على 225 رأساً حربياً في حين أن مخزونات فرنسا من الأسلحة النووية فيها 290 رأساً نووياً؛ ويجب ألا ننسى أن قوى دولية أخرى تسعى جادة لتحصل على المزيد من الأسلحة النووية، وعلى رأس تلك الدول الصين التي تتوفر على أسرع ترسانة نووية نمواً في العالم، حيث تضيف حوالي 100 رأس نووي سنوياً منذ عام 2023، ليصل عددها إلى ما يُقدر بـ 600 رأس نووي.
المشكل ليس فقط في السلاح ولا في الأمن النووي التقليديين، وإنما أيضاً في تطورهما، حيث سيكون سباق التسلح النووي القادم قائماً حول الذكاء الاصطناعي والفضاء الإلكتروني والفضاء، بمعنى أننا سنتجاوز ما عهدناه من قائمة على الصواريخ الموجودة في المخابئ أو على الغواصات أو القنابل على الطائرات. وستكون أهمية البرمجيات مساوية للأجهزة، وهذا ما سيجعل من مشكلة ضبط ومراقبة الأسلحة والمخزونات النووية أمراً صعباً؛ ففي حال وجود أعطاب برمجية أو خلل في نظام يعتمد كلياً على الذكاء الاصطناعي، قد يُؤدي عطب فني بسيط إلى ضربة نووية.
كل هذا يفسر عسكرة السياسة وعسكرة السياسات العمومية التي بدأت تتبناها الدول، وهذا يؤدي في الأخير إلى الارتماء في أحضان قانون القوة والابتعاد عن أبواب السلام.

