شكَّل تنظيم أول حج في عهد الملك عبد العزيز عام 1924 تحدياً ونقطة تحول مركزية، ومثَّل بدء انتقال التعامل مع شؤون الحج من النمط التقليدي غير المنظم إلى نمط إداري مؤسسي، يتكئ على أدوات الدولة الحديثة. شهد الحج تطورات وإنجازات غير مسبوقة في العهد السعودي، وعلى مدى مائة عام أو يزيد جعل قادة المملكة العربية السعودية خدمة الحرمين أولوية لكل منهم. أتى ذلك انطلاقاً من مسؤولياتهم التاريخية في قيادة العالم الإسلامي، ونهجهم الراسخ لخدمة الإسلام والمسلمين، ورسالتهم الخالدة في العناية بالحرمين الشريفين ورعاية قاصديهما؛ لذا لا فخر للسعوديين يعدل شرف خدمة الحرمين، ولا مجد يوازي استشعارهم لذلك. وأكد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في كلمته التي ألقاها نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في حفل الاستقبال السنوي لضيوف الدولة: «لقد شرَّف الله تعالى هذه البلاد بخدمة الحرمين الشريفين وقاصديها، من حجاج ومعتمرين وزائرين، ووضعت المملكة ذلك في مقدمة اهتماماتها، وسخَّرت جميع قُدراتها لخدمة ضيوف الرحمن والتيسير عليهم، ليؤدوا مناسكهم بيسر وسهولة. وسوف تواصل المملكة ذلك بعون الله وتوفيقه، مُدركة عِظم المسؤولية وشرف الخدمة».
وعلى مرّ الأعوام وفّرت الدولة السعودية بنية تحتية متقدمة، وطوّرت تنظيماتها المتعلقة بالحج والحجيج وخدماتها الأمنية والصحية واللوجيستية وإدارة سلاسل الإمداد، بما يضمن استمرار الخدمات الأساسية في بيئة عالية الكثافة ومساحات محدودة زماناً ومكاناً، كما تبنّت أنظمة شاملة في التعامل مع الإمدادات الغذائية والمياه والرعاية الصحية والنقل والنفايات والطوارئ. وتكاملت هذه الجهود مع توظيف المنظومات التقنية لتنظيم خدمات الحجز والدفع، وتوزيع الحشود والمراقبة عبر الأقمار الاصطناعية والطائرات من دون طيار، لتتبع الحركة وكثافة الحشود، ونقل الأدوية والمستلزمات الطبية، ورصد استهلاك الموارد.
هناك الكثير من التفاصيل التي يصعب حصرها، كما أن هناك جوانب قد تكون أبعادها التاريخية غائبة أو مغيبة، ومنها ما يتعلّق بدور المرأة في خدمة الحجاج، إذ مع بروز هذا الدور في الأعوام الأخيرة وإبرازه إعلامياً، يغيب عن ذهن كثيرين أنه صدر في عهد الملك عبد العزيز نوفمبر (تشرين الثاني) 1926 نظام لإدارة الحج؛ جاء في مادته الأولى تعريف بالمطوفين الذين يقومون بخدمة الحجاج، ونصّت المادة الخامسة منه على دور المطوفات ومسؤولياتهن، كما أن هناك الكثير من النصوص النظامية المتعلقة بـ«النساء المطوفات»، ويتذكر المطوف والمستشار الدكتور حسن علي مختار أنه في عقد الستينات الميلادية من القرن الماضي كان هناك عدد من المطوفات المعروفات منهن: خديجة منصوري لحجاج مصر، ولطيفة رشيدي لحجاج تركيا، وميمونة عشموني وحليمة شاهين لحجاج الجاوة.
كما تذكر المطوفة والباحثة في مهنة الطوافة فاتن إبراهيم حسين أنه علاوة على المطوفات (المرخصات) فإن زوجات وأخوات وبنات المطوفين كن يشاركن في خدمة الحجاج ورعاية الحاجّات، إلا أن ذلك الدور انحسر مع تحول مهنة الطوافة من العمل الفردي إلى المؤسسات عام 1982.
وعلى الرغم من أن نظام (إدارة الحج) الصادر عام 1926 نص صراحة على دور (المطوفات)، فإن ذلك الاعتراف المبكر لم يكن كافياً لضمان استمرارية مشاركة النساء في الزخم ذاته عبر العقود. فقد مرّ دور المرأة في خدمة الحجاج بتحولات تعكس تغير البنية الاجتماعية والتنظيمية السعودية.
فالبدايات ربطت مهنة الطوافة بطابع عائلي ومجتمعي، وشاركت المرأة في خدمة الحاجّات ضمن منازل الطوافة أو عبر تنظيم جماعي شبه رسمي، ثم بدأت مرحلة التراجع التدريجي بعد إنشاء مؤسسات الطوافة في مطلع الثمانينات الميلادية؛ حيث تقلصت فرص النساء في ممارسة أدوارهن السابقة، كما لعبت التحولات الثقافية دوراً جوهرياً في تشكيل هذا المسار، إذ ترافق التحول المؤسسي في الدولة مع تصورات اجتماعية أكثر تحفظاً تجاه عمل المرأة في المجال العام، وهو ما أسهم في إضعاف حضورها في ميدان الحج، رغم خبراتها المتراكمة وفاعليتها التاريخية.
ومع التحولات الكبرى في ظل رؤية المملكة العربية السعودية 2030، بدأت هذه المعادلة الانعكاس؛ حيث أعادت السياسات الجديدة الاعتبار للكفاءة، بغض النظر عن الجنس، ففتحت أبواب التوظيف والتدريب والتمكين للمرأة في جميع المجالات، ومنها قطاعات الحج والعمرة، لتعود المرأة اليوم إلى الميدان لا بوصفها امتداداً عائلياً؛ بل طرفاً فاعلاً يحمل تأهيلاً ومهارة ونصوصاً تنظيمية تحمي دوره وتدفعه إلى مزيد من المشاركة المؤسسية المستدامة.
لذا فإن دور المرأة في الحج لم يكن طارئاً ولا هامشياً؛ بل كان دوراً مؤسساً، ثم أعيد تفعيله ضمن رؤية تنموية شاملة، تؤمن بكفاءة المرأة وشراكتها الفاعلة في خدمة ضيوف الرحمن. وهكذا، فإن قراءة تاريخ دور المرأة في الحج تكشف عن دورة اجتماعية – تنظيمية مركبة، تتأرجح بين المشاركة الحرة، والتراجع النظامي، ثم العودة تحت مظلة تمكين مؤسسي، ما يجعل هذا الدور نموذجاً مصغراً لفهم تطور علاقة المرأة السعودية بالمجال العام والدولة الحديثة.
أما عن استقبال قادة البلاد للضيوف من النساء، فاستضافت الحكومة السعودية في حج عام 1951 بعثة من أساتذة وطلاب جامعة فؤاد الأول (القاهرة)، ووصفت الكاتبة والأكاديمية المصرية الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) استقبال الملك عبد العزيز لهم: «لم يكن.. له حديث إلا عن محنة الأمة بمؤامرة التقسيم، والوجود الإسرائيلي المغتصب في قلب وطننا. ومد بصره إلى الأفق الشمالي يستوعب أبعاد النكبة في رؤية ثاقبة، ويحس بحدس فراسته نذر اجتياح الوباء الخبيث لما وراء حدود التقسيم المشؤوم، وإيغاله في صميم وجودنا وكياننا… وودعنا جلالة العاهل، رحمه الله، وفي النفس هم وشجن. لم يلطِّف منهما ما حظينا به من كرم الوفادة وأُنس اللقاء، وما خصني به جلالته من رعاية… وعدنا إلى مصر نحمل أجمل ذكرى لأطيب رحلة وأكرم ضيافة. ومضت أيام وليالٍ، ومشاهد الجزيرة العربية تتراءى لي من بعيد، فتغريني بأن أحدث قومي عن أرض المعجزات».
