في الأسبوع الماضي، حلَّت الذكرى الـ58 لهزيمة الخامس من يونيو (حزيران) 1967، ورغم مرور نحو ستة عقود على تلك الهزيمة الكارثية، فإن مرارتها ما زالت حاضرة، وكثيراً من جراحها لم يندمل.
لقد أُهرق كثير من الحبر في الكتابة عن تلك الهزيمة المُوجعة، وعن آثارها الخطيرة التي غيَّرت وجه المنطقة تماماً، وبدَّلت مواقع النفوذ والقوة فيها، بعدما هُزمت جيوش عربية عدَّة في هجمة إسرائيلية مُباغتة لم تستغرق سوى ستة أيام.
لم تكن تلك الهزيمة عسكرية فقط، ولكنها أيضاً كانت تعبيراً عن مأزق حضاري كامل يعيشه قطاع كبير من العالم العربي في مواجهة التحدي الإسرائيلي، وعن فجوة أخذت في الاتساع في موازين القوة الشاملة للجانبين، وهي فجوة أدى عدم إدراكها على النحو السليم إلى التورط في تلك الهزيمة المُذلَّة.
ورغم أن مقاربة هزيمة يونيو، واستقصاء أبعادها، من الجوانب الاستراتيجية والعسكرية والعلمية، مسألة في غاية الأهمية، فإن تلك الهزيمة تركت لنا أيضاً درساً إعلامياً قوي الدلالة وشديد الإيحاء، وهو درس لا يبدو أننا تعلمنا منه الكثير.
فعندما نشبت الحرب في الخامس من يونيو 1967، كانت الدول العربية المُنخرطة في المعركة تمتلك كلها منظومات إعلامية متشابهة في العموم، رغم وجود بعض الفوارق الثانوية. وسيتضح لاحقاً أن تلك المنظومات، ونوع الأداء الذي احترفته ودأبت عليه، كانا عاملَين بالغَي التأثير في التمهيد للهزيمة، وتسهيل وقوعها.
وعندما سنشرع في تحليل عناصر المنظومات الإعلامية التي امتلكتها الدول العربية المُنخرطة في تلك الحرب، سيتضح لنا على الفور أنها كانت متشابهة بدرجة كبيرة، وأنها أظهرت اتفاقاً نادراً في أدائها العام من جانب، ومقارباتها الخاصة للحرب الكارثية من جانب آخر.
كانت تلك الحرب بين إسرائيل من جانب، ومصر وسوريا والأردن والعراق من جانب آخر، فضلاً بالطبع عن مساعدات فنية وأنواع مختلفة من الدعم، تلقتها الدول العربية المُحاربة من دول عربية أخرى شقيقة.
وقد كان لافتاً أن معظم المنظومات الإعلامية العربية المُحاربة والداعمة كانت متَّفقة على أربع أفكار رئيسة: أولاها كانت فكرة الصوت الواحد؛ إذ هيمنت الحكومات على الأداء الإعلامي هيمنة تامة، واستخدمت أدوات الرقابة السابقة واللاحقة، لكي تضمن أن يردد إعلامها رسالة واحدة بصوت واحد في جميع الأوقات.
وأما الفكرة الثانية، فكانت الاتفاق التام على آليات الحشد والتعبئة المُتبعة، ورفع مستوى توقعات الشعوب العربية إزاء المعركة قبل اندلاعها، وفي أثناء العمليات العسكرية، بحيث نجحت تلك المنظومات الإعلامية في شحن الجمهور العربي إلى أقصى درجة ممكنة، وأقنعته بأن الحرب فكرة مرغوبة ومطلوبة، وأن الفوز فيها محسوم من دون أي شك.
وتجسَّدت الفكرة الثالثة في عملية منهجية للإغراء بـ«العدو الإسرائيلي»، وتصويره على أنه هزيل وغير قادر على الصمود، وتصوير جنوده على أنهم جبناء ومرعوبون من مواجهة المقاتل العربي، وهو أمر أقنع الملايين من العرب بأن الحرب لن تكون سوى نزهة خالية من المتاعب، وبعدها تبدأ الاحتفالات بسقوط تل أبيب.
وعندما بدأت المعركة، وظهرت علامات الهزيمة المُذلَّة والسريعة، ظهرت الفكرة الرابعة التي تركزت في آليتَي التعتيم والإنكار، وهنا ظهرت البيانات المبدئية التي أمعنت في وصف انتصارات العرب على جبهات القتال، وإسقاط عشرات من طائرات العدو، قبل أن يفيق الجميع على الحقيقة الكارثية، وتنقشع غيوم الحرب تماماً، وتظهر ملامح الهزيمة الكاملة.
وعبر تلك الأفكار الأربع التي تمتعت بالاتفاق الكامل والنادر بين المنظومات الإعلامية العربية للدول المُحاربة، تم تخدير الجمهور، وتسطيح وعيه، وتغييبه عن أبعاد توازن القوى، وعن حقائق القتال، قبل أن يتم استخدام التأطير الملتوي والمُغرض لوصف ما جرى، عبر وصفه بـ«النكسة».
لقد تم استخلاص بعض الدروس من هزيمة يونيو بكل تأكيد، وإلا لما تغيَّرت نتائج المواجهة العربية- الإسرائيلية لاحقاً في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وهو أمر حدث بوضوح في مجالات الاستعداد العسكري والتجهيز القتالي والخداع الاستراتيجي، كما يقتضي الإنصاف الإشارة إلى أن فكرة الكذب الصريح فيما يتعلق بإعلان نتائج القتال، قد نُحِّيَتْ لصالح إصدار بيانات أكثر مصداقية وتعبيراً عن الواقع.
لكن الدرس الإعلامي الذي كان يجب أن نستخلصه من تلك الهزيمة غاب في المراحل التالية تماماً، ولم يستوعب كثير من المنظومات الإعلامية العربية أهمية التخلي عن الشحن والتعبئة، والتعتيم والإنكار، والابتعاد عن اعتماد الصوت الواحد.
إن درس يونيو الإعلامي يجب أن يكون حاضراً حتى بعد 58 عاماً من الهزيمة، وفي أول سطوره ستبرز فكرة التعدد، وإفساح المجال للنقد الموضوعي، وطرح الأفكار المتنوعة، وعدم التستر على الفساد والخلل، حتى لا تقع هزائم أخرى.