كنت أتمنى أن تقيم دار الأوبرا احتفالا كبيرا يليق بالشيخ محمد رفعت قيثارة السماء وسيد قراء القرآن الكريم فى الأرض، بمناسبة مرور 75 عاما على رحيله فى يوم 9 مايو عام 1950، واستعراض سيرته المبهرة والمدهشة ليس فقط فى قراءة القرآن أو اقتران اسمه بآذان رمضان العريق، ومرت الذكرى والمناسبة و”ماسية الرحيل” ولم يشعر بها أحد ولم تحتفى جهة أو وسيلة إعلامية بالرجل وذكراه، وهنا نوجه التحية والتقدير لقناة النيل الثقافية التى خصصت حلقة كاملة من برنامج “السيرة” مساء يوم الثلاثاء الماضى على مدى ساعتين للاحتفال بذكرى الرجل وسيرته وحياته (عاش 68 عاما) منذ ولادته فى 9 مايو 1882 حتى وفاته فى 9مايو 1950.
نظلم الشيخ محمد رفعت كثيرا جدا عندما نعتبره أو ننظر إليه على أنه قارئ للقرآن فقط طوال أكثر من نصف قرن، وإنما هو حالة وطنية مصرية وملمح من ملامح اليقظة الوطنية أثناء ثورة 19 مع سعد زغلول وسيد درويش وطلعت حرب والأب سيرجيوس، أحبه المسيحيون واليهود قبل المسلمين فقد اعتبروه صوت الوطنية المصرية والتعبير عن مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال وتقرير المصير وحرية الوطن.
فهو ابن مرحلةٍ تاريخية غاية فى الأهمية، عاشتها مصر -منذ مولده حتى وفاته- يمكن أن نطلق عليها مرحلة تغييراتٍ وتحولاتٍ سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية شديدة الأهمية؛ فهى مرحلة مخاضٍ عسيرة المولد.
فبعد مولد الشيخ رفعت بأربعة شهور تقريبًا اشتعلت أحداث الثورة العرابية، والمطالبة باستقلال الجيش المصرى، وبالحياة النيابية السليمة، وفى الشهر ذاته سبتمبر من عام 1882 تفشل الثورة لأسبابٍ عديدة، ويحتل الإنجليز مصر بعد هزيمة عرابي، واتهامه بالخيانة فى موقعة التل الكبير، وبعد 12 يومًا من وصول الإنجليز للقاهرة، يعاد تنصيب الخديوى توفيق ابن إسماعيل حاكمًا لمصر مكافأةً له.
وبدأت الحركات الفكرية والسياسية المطالبة بالاستقلال فى الظهور، وعندما بلغ الشيخ رفعت عاميه السادس والسابع، وعامه الرابع عشر كانت أفكار الإمام الشيخ محمد عبده تشغل المجتمع المصرى، الذى عانى من ظلام العثمانيين؛ فهو واحدٌ من أبرز المجددين فى الفقه الإسلامى فى العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح، وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ وساهم بعلمه، ووعيه، واجتهاده فى تحرير العقل العربى من الجمود الذى أصابه لعدة قرون، كما شارك فى إيقاظ وعى الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي؛ لمواكبة التطورات السريعة فى العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره فى مختلف النواحى السياسية، والاقتصادية، والثقافية.
وفى بدايات القرن العشرين، ومع بلوغ الشيخ محمد رفعت عامه الثامن عشر وحتى الـ25 ونضوج وعيه لما يحدث حوله فى المجتمع، يظهر الزعيم مصطفى كامل، ودعوته للاستقلال التعليمي، والثقافي، وإنشاء المدارس الأهلية، وإنشاء جامعة أهلية وطنية كرد فعلٍ لسياسة الاحتلال نحو طمس الهوية المصرية، والقضاء على العقلية والفكرية، ثم ظهور الزعيم محمد فريد.
ومع نضجه ووعيه الكامل وشبابه يعيش الشيخ محمد رفعت أحداث ووقائع ثورة 19، وما تمخضت عنه من أفكارٍ وطنية، ووعى جمعى بالقضية الوطنية المصرية، ووأد التفرقة والفتنة بين عنصرى الشعب من مسيحيين ومسلمين، وتنهض الدعوة إلى الاستقلال الاقتصادى من طلعت حرب باشا، وينهض الفن مع سيد درويش، وبداية المعركة الحقيقية نحو الاستقلال التام من الاحتلال الإنجليزى.
هذه هى المرحلة التاريخية التى عاشها الشيخ محمد رفعت؛ فى مجتمعٍ يسعى إلى التغيير فى التعليم، والفن، والثقافة، والاقتصاد، وتأثر هو بكل ذلك، وتكونت شخصيته، وهو المولود فى درب الأغوات بحى المغربلين، أحد أشهر الأحياء الشعبية بالقاهرة؛ ولذلك فقد اعتبره جميع المصريين من كل الطوائف والديانات المختلفة، صوت التغيير والتعبير عن أحلامهم، حتى لو كان بقراءة القرآن؛ فقد التف حول صوته المسيحيون، واليهود المصريون، قبل المسلمين، واعتبروا صوته هو صوت مصر التى تتوق للحرية إلى العالم، ولم لا؟ فهو أول صوت بشرى يصل للمصريين عبر الراديو.
فى عام 1934، شهدت مصر ميلاد الإذاعة اللاسلكية، وافتتحت إرسالها بتلاوة الشيخ محمد رفعت: “إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا”، كانت الإذاعة المصرية فى ذلك الوقت بمثابة السحر الآتى عبر الأثير، والقادر على إيصال صوتك لبشرٍ بعيدين عنك بآلاف الكيلومترات، ومن حينها وانطلق صوت الشيخ رفعت كملمحٍ خاص لتلك الإذاعة، ومنذ السنة الأولى تم التعاقد معه لتلاوة القرآن طوال شهر رمضان مقابل مائة جنيه.
ولقراءته القرآن فى الإذاعة قصة طريفة، ففى إحدى الليالى سمعه الأمير محمد على توفيق، ابن عم الملك فاروق وابن الخديوى توفيق والوصى على العرش قبل ثورة يوليو وصاحب قصر المنيل بالروضة فأعجب به ورشحه لافتتاح الإذاعة المصرية بتلاوته، ولكن الشيخ الورع التقى خاف من هذا الاختراع الجديد (أو البدعة الجديدة)، الذى لم يكن قد وصل حتى إلى دول أوروبا، وخاف أن يتلو القرآن ويذاع من الراديو فى مكانٍ لا يليق بجلال كلام الله، فاستشار شيخ الأزهر وحينها قال له شيخ الأزهر الشيخ محمد الأحمدى الظواهرى: “ربما يهدى الله بصوتك شخصًا إلى طريق الله”.
وهنا وافق الشيخ رفعت على افتتاح الإذاعة بسورة الفتح وبعقدٍ قيمته 3 جنيهات، لتحدث الطفرة الكبرى فى شهرة الشيخ رفعت التى وصلت للعالم أجمع.
فى تلك الأثناء أصبح صوت الشيخ رفعت علامةً مميزةً أيضًا لشهر رمضان، حتى طُلب منه تسجيل الأذان بصوته، وظل هذا الأذان هو المميز لشهر لرمضان على الإذاعة المصرية، ومن بعدها التليفزيون المصري، وهو نفس الأذان الذى تستخدمه معظم القنوات الفضائية فى رمضان حتى اليوم، وقد استخدم الشيخ فيه مقام السيكا الموسيقي، مما جعله مختلفًا ومميزًا عن أى أذانٍ آخر؛ حيث جرت العادة أن يرفع الأذان على مقام حجاز.
مقام السيكا ؟! نعم.. وهل تعلم الشيخ محمد رفعت فنون وعلوم الموسيقى؟