كان المكان بلدة «طريف» في قلب الدرعية، وكان الزمان عام 2019، حيث كانت النسمات الصحراوية الباردة تشق تلال صحراء الربع الخالي، وتصل إلى «طريف» لتضفي قشعريرة مختلفة إلى تفاصيل المكان التاريخي الفريد.
تحدث الأمير محمد بن سلمان بشجن ملحمي عن الفرص الهائلة المهدرة في قطاع السياحة، كيف لا وهناك قرابة 1400 كيلومتر من الشواطئ العذراء ذات الشعب الخلابة، التي لم تطأها قدم بشر حتى الآن، والآلاف من التلال الصحراوية في قلب السعودية يعجز الوصف عن رسم انحناءات رمالها الذهبية التي سحرت الثقافات الغربية عبر الأزمان ولم تستثمر، وهناك عسير، وجنوب المملكة وطبيعته الآسرة، المفتقر إلى الخدمات والبنى التحتية السياحية، وهناك المناطق التاريخية التي تحكي ربما تاريخ أقدم حضارات عرفت حتى الآن كالعلا التي بكل تأكيد هي أكبر متحف تاريخي مفتوح على وجه الأرض… ولكن الأمير كذلك أكد أن الفرص المهدرة ليست إلا بوابة للبدايات القوية لقصص النجاح الفريدة، وأن الكثير جداً يمكن أن يتحقق من خط البداية بسواعد الرجال وهمم الطاقات الطموحة… واستمر الحديث.
انتهي المساء وانتهت معه المناسبة وبدأت قصة أخرى. غادر الجميع، ولكن لم يعلم الكثيرون أنَّ الأمير محمد في تلك الليلة ربما رسم خطة تعد الأكثر جسارة وجرأة في تاريخ صناعة السياحة في العصر الحديث.
ظلت السعودية أشبه بالصندوق المغلق لعقود طويلة، وكان الحصول على تأشيرة لدخولها بغرض الزيارة – دون مبالغة – رحلة بالغة التعقيد! كانت البنى التحتية السياحية شبه مهترئة وكانت جهود الوزارات المختلفة بعيدة عن التكامل في خدمة الزائر، وكانت الخدمات السياحية شبه منعدمة…! وتستمر القائمة الطويلة من التحديات.
عندما أشرقت شمس اليوم الجديد شمرت الوزارة عن ساعديها وبدأت رحلة البناء المدهشة لنحو السبعة أعوام، مستمدة طاقتها من تمكين القيادة ووضوح الرؤيا. التوجيه كان واضحاً: ضمن العديد من الأهداف، هم مطالبون برفع عدد الزيارات السياحية مائة مليون زيارة، وكذلك مطالبون بخلق مليون فرصة عمل جديدة تقريباً، وأن ترتفع مشاركة القطاع السياحي في الناتج القومي من 3 في المائة إلى 10 في المائة، مشابهاً لدول عالمية بدأت العمل في قطاع السياحة منذ عقود طويلة.
منذ أن بدأ العمل، تمت غربلة هيكلة القطاع السياحي بالكامل فيما يشبه عملية جراحية دقيقة، فتحولت أولاً هيئة السياحة والتراث إلى وزارة السياحة، وتخلت عن قطاع التراث في خطوة منطقية إلى شقيقتها وزارة الثقافة، وتفرغت وزارة السياحة لقيادة القطاع والعمل كمشرع وداعم ومراقب وممكّن لكل أوجه العمل في قطاع السياحة في المملكة، وتم إنشاء هيئة السياحة التي اطّلعت بدور التسويق لكل الوجهات والأنشطة السياحية في المملكة، وكذلك قامت بقياس وتطوير تجربة المستهلك أو السائح من الألف إلى الياء، وعنيت أيضاً بتوفير مزودي الخدمات على اختلاف مشاربهم. وحتى تكتمل سلاسل القيمة المضافة تم إنشاء الصندوق السياحي الذي تولى باحترافية تمويلَ العشرات من المشاريع السياحية التي أعادت رسم صورة البنية التحتية للسياحة السعودية، وضمن إعادة الهيكلة نفسها تم كذلك تأسيس مجلس التنمية السياحي، الذي يضم في جنباته إلى جانب وزير السياحة كبار موظفي الدولة من الوزارات الأخرى، لضمان تكامل الخدمات والجهود من المنبع إلى المصب.
بعد نحو السبعة أعوام أنجز الكثير، فعدد الزيارات المستهدف في 2030 تم الوصول إليه قبل ستة أعوام من ذلك التاريخ، وتطورت البنى التحتية بشكل كميّ ونوعي، وتضاعفت الفعاليات في شتى المدن الرئيسية والصغرى، وتضاعف حجم الزيارات غير الدينية أكثر من خمسة أضعاف. الصندوق السياحي أيضاً لم يغب عن المشهد، وقدم تمويلات تتجاوز الثلاثين ملياراً، ستقفز بعدد الغرف الفندقية من 300 ألف غرفة تقريباً إلى ما يتجاوز 550 ألف غرفة في 2030، وهو ما يتجاوز عدد الغرف في مناطق عالمية مثل دبي وسنغافورة والقاهرة وبومباي وباريس مجتمعة!
رغم ما تحقق، ما زال الطريق طويلاً، فالدول المنافسة بدأت بالتركيز على هذا القطاع منذ عقود طويلة، وما زلنا بحاجة إلى الاستمرار في الاستثمار في البني التحتية، وأيضاً تطوير تجربة المستهلك بسخاء، وكذلك الاستثمار في التدريب والتطوير وصنع نظام متكامل يتمتَّع بالعمق الكافي في سلاسل الخدمات كمّاً ونوعاً وبشكل أفقي ورأسي معاً.
ما تحقَّق في قطاع السياحة السعودية تجربة تنموية مدهشة تدرس في الجامعات المرموقة، وتستحق أن ترفع لها القبعة… والقادم يحمل المدهش أكثر.