دخلت قبل أسابيع أقدم صيدلية في مصر، التي أبقى فيها ملاكها الجدد كل الأدوية والزجاجات والأدوات والأرفف الخشبية العتيقة وكأن أصحابها قد غادروها للتو.
وأنا أنظر بانبهار لروعة التصاميم القديمة لـ«أجزاخانة ستيفنسون» في «وسط البلد» همس بأذني الصيدلي المناوب بدعابة قائلاً: «هات عشرة جنيه رسوم دخول المتحف»! كانت بالفعل متحفاً وثّق حقبة كان بإمكان أي أجنبي فيها أن يمتلك متجراً ومصنعاً قبل أن تبدأ حملات التأميم التي غادر على إثرها آلاف الأجانب «أم الدنيا»، حيث كانت تعد مصر «كوزموبوليتانية»؛ أي مدينة عالمية متعددة الثقافات، مثل باريس ولندن.
في كل بلد هناك إرث تاريخي يبحث عنه زواره. البعض هدم تاريخه «بالبلدوزرات» لهثاً وراء الحداثة، ثم اكتشفوا أن الشعوب المتقدمة والنامية صارت تبحث عن الإرث الثقافي الأصيل الذي أصبح مصدر اعتزاز وسياحة لتنويع مصادر الدخل.
في الوطن العربي وحده، نحو مائة موقع، تمثل نحو 8 في المائة من تلك المدرجة على قائمة التراث العالمي. وقد استوعبت السعودية ذلك، فقدمت للعالم مشروعاً ذهلت من روعته، وهو «الدرعية»، لإعادة إحياء قلب المملكة النابض لتصبح أكبر مدينة تراثية في العالم. وأنت تسير في طرقاتها تشعر بأنك في عالم مختلف، يؤمه السياح بحثاً عن الأصالة. وهم موعودون بأربعين فندقاً جديداً تحمل طابعاً «نجدياً» يوثق أصالة البلاد.
تشير «اليونيسكو» إلى أن 40 في المائة من إيرادات السياحة العالمية تأتي من «حجر الزاوية» (السياحة الثقافية). فالناس قد سئمت من ناطحات سحاب نيويورك جديدة، وصارت تبحث عن الطبيعة والبحار والوديان والآثار وما لا تشاهده سوى في تلك الدولة. هو قطاع واعد يقدر حجمه في عام 2025 بنحو 1.2 تريليون دولار، ويتوقع أن يتضاعف بحلول 2035.
بلغة الأرقام، الشرق الأوسط هو منبع الحضارات، ومهد الديانات، وإشعاع ثقافي لا نظير له. بعض الآثار رأيناها وبعضها ما زال مطموراً مثل مدن وقرى بأكملها تحت ثرى الصحارى العربية.
هذا كله يتطلب إعادة اهتمام المدارس والحكومات والشاشات بتلك المواقع وإبراز أهميتها، فضلاً عن إرسال مزيد من البعثات ليخرج لنا جيل يحمي تراثه ويعتز به ويحسن إظهاره للعالم بروح عصرية. لا سيما أن كثيراً من المواقع السياحية التراثية ما زالت عرضة للمخاطر، فجزيرة «فينيسيا» الإيطالية تتعرض سنوياً لتهديدات هبوط مستوى الأرض نتيجة ارتفاع منسوب المياه والفيضانات… يقال إنها ستختفي بحلول عام 2100، فضلاً عن أهرامات الجيزة، والبتراء الأردنية، وفيلكا الكويتية، و«منهاتن الصحراء» اليمنية بناطحات سحابها الطينية المبنية في «شبام» في القرن السادس عشر؛ كلها عرضة لتحديات التآكل والتغير المناخي والتصحر.
بعض التراث لا يتطلب سوى أن ننفض عنه غُبَار النسيان، وبعضه يحتاج إلى تسويق ذكي ومعاصر يعيد للمنطقة وهجها… ويجعلها قبلة «الباحثين عن الأصالة».