مع تنحّي وارن بافيت من «بيركشاير هاثاواي» بعد عقود من تولي رئاسة مجلس إدارتها، بدأت وسائل الإعلام في نشر أخبار على غرار «ماذا لو استثمرت ألف دولار في شركة (بافيت) قبل 5 عقود؟». هذه النوعية من الأسئلة والأخبار تكاد لا تختفي من وسائل الإعلام، ومن الحديث المتبادل بين الناس، فتارة تكون عن أسعار العقارات قبل سنوات مضت، وأخرى عن أسعار الأسهم في حُقبٍ معينة، وبالطبع فإن السؤال الذي يكاد لا يغيب هو «ماذا لو استثمرت في بتكوين عام 2010؟». تثير هذه الأسئلة الإعجاب والدهشة وبالتأكيد مشاعر الندم، وهي ليست مجرد ترف ذهني أو خيال عابر، بل أصّل علم النفس المعرفي لهذا النمط النفسي العميق، وعرّفه باسم «التفكير المضاد للواقع»، وهو ميل الإنسان إلى تخيّل بدائل لما حدث فعلاً، واستحضار سيناريوهات كان من الممكن أن تقع لو اتُّخذت قرارات مختلفة، لكن هل لمثل هذا النوع من التفكير قيمة فعلية للمستثمر أم أنه مجرد تمرين ذهني يوقع الإنسان في فخ الندم والتوقعات المضللة؟
من الناحية الإيجابية، يُعد التفكير المضاد للواقع أداة تعليمية فعّالة تساعد المستثمر على تحليل أخطائه والتعلم منها، عبر تخيّل سيناريوهات بديلة لما وقع فعلياً، ليصبح بإمكانه استخلاص دروس عملية تعزز نضجه الاستثماري، وعلى سبيل المثال، فإن المستثمر الذي تكبد خسائر نتيجة تركيز محفظته في أصل واحد قد يدرك، من خلال هذا التأمل العقلي، أهمية التنويع بصفته عنصراً أساسياً في الحماية من التقلبات، وتبرز قيمة هذا النمط من التفكير حين يُستخدم ضمن أدوات مؤسسية، مثل اختبارات الضغط وتحليل السيناريوهات، وهي أدوات تستند إلى افتراضات بديلة تهدف إلى بناء استراتيجيات أكثر توازناً ومرونة في مواجهة المستقبل، كذلك يمكن أن يسهم هذا التفكير في التكيف النفسي، إذ يخفف من حدة الخسائر عبر مقارنة ما حدث بما كان يمكن أن يكون أسوأ، مما يرسّخ الانضباط، ويُبعد المستثمر عن ردود الفعل العاطفية العنيفة.
ويمتد الجانب الإيجابي ليشمل القدرة على كشف الانحيازات السلوكية وتصحيحها، فعندما يستعرض المستثمر قراراته الماضية، ويتأمل كيف كان بإمكانه التصرف بشكل مختلف، فقد يلاحظ أنماطاً ذهنية متكررة تؤثر على قراراته، مثل التسرع أو التأثر المفرط بالأخبار أو الإعلانات، هذا النوع من الوعي الذاتي يمكن أن يكون نقطة تحوّل في سلوك المستثمر، حيث يساعده على بناء منهجية أكثر موضوعية وتوازناً. مؤسسات مالية تستثمر في هذا النوع من التفكير المنهجي عبر ورش عمل وتدريبات، حيث يُطلب من المحللين تخيل أن الاستثمار فشل بالفعل، ومن ثم البحث عن الأسباب المحتملة لهذا الفشل، هذه الممارسة تحفّز التفكير الوقائي، وتعزّز من جودة اتخاذ القرار.
في المقابل، قد يتحول التفكير المضاد للواقع إلى أداة هدّامة إذا خرج عن نطاقه الطبيعي، أحد أبرز آثاره السلبية يتمثل في إثارة مشاعر الندم التي قد تدفع المستثمر إلى قرارات متسرعة وغير مدروسة. والتفكير المستمر في الفرص الضائعة – مثل الندم على عدم الاستثمار في العملات الرقمية بمراحلها الأولى – قد يدفع بالمستثمر إلى مطاردة الفرص عالية المخاطر بدافع تعويض ما فاته، متجاهلاً التحليل العقلاني أو التقييم الموضوعي، وهذا النمط من السلوك، المعروف (برهبة تفويت الفرصة) أو (Fear of Missing Out)، يعكس قراراً مبنياً على العاطفة أكثر من كونه مبنياً على منطق السوق أو البيانات، ويغذي هذا التوجه أيضاً تحيّز الإدراك المتأخر، حيث يعتقد المستثمر أن النجاح كان واضحاً ويمكن التنبؤ به، مما يعزز ثقة زائفة في قدرته على تكرار التجربة مع استثمارات أخرى.
ولا تتوقف الآثار السلبية عند هذا الحد، إذ قد يُسرف المستثمر في مقارنة أدائه الفعلي بسيناريوهات مثالية لم تحدث أصلاً، مما يؤدي إلى شعور دائم بعدم الرضا وتقييم مضلل للواقع، فحين تقارن محفظتك الحالية بعوائد خيالية كنت ستحققها لو تصرفت بشكل مختلف، فإنك تخلق فجوة ذهنية تُعيق الرضا، وتجعل من الصعب التمسك بخطة استثمارية متسقة، وقد يقود هذا التوتر النفسي إلى تغييرات متكررة في استراتيجية الاستثمار، أو إلى الانسحاب الكامل من السوق بدافع الشعور بالإحباط، كما أن بناء توقعات مبنية على قصص نجاح استثنائية لا يُدرك كثيرون أنها محكومة بقدر كبير من الحظ وليس فقط بالبصيرة، يعزز أوهاماً لا أساس لها، ويشوّه التصور الواقعي عن طبيعة الأسواق.
في نهاية المطاف، يتوقف أثر التفكير المضاد للواقع على طريقة توظيفه، حين يُمارس بوعي واتزان، ويمكن أن يكون أداة فعّالة للتعلم، وتحسين القرار، وتطوير النظرة الاستراتيجية، لكنه إذا تُرك من دون رقابة، فقد يتحول إلى مصدر للاضطراب النفسي، والقرارات الارتجالية، والتوقعات الوهمية، مؤدّياً إلى تفكير يُلاحظ بكثرة، وهو أن الفرص الاستثمارية ولّى عهدها، وأنه لم يعد هناك مجال للاستثمار ذي الجدوى، ولكن تجب معرفة أن هذا النوع من التفكير وُجد قبل أن تنشأ العملات الإلكترونية، وقبل أن ترتفع أسعار العقارات، بل وحتى قُبيل كبرى الانهيارات الاقتصادية التي ولّدت مئات الفرص للمستثمرين بانخفاض أسعار الأسهم والعقارات، وبينما يميل البعض إلى طرح السؤال: ماذا لو كنت قد استثمرت بشكل مختلف؟ فإن السؤال الأجدر بالطرح هو: كيف يمكن لهذا التفكير أن يساعدني باتخاذ قرارات استثمارية أفضل؟