في زحام الحياة وضجيج الأيام، يتعدد الأصدقاء كما يتعدد الوجوه، لكن لا يوجد سوى واحد، ربما اثنان، يمكن أن يُطلق عليهما بحق “الصديق الحقيقي”.
فالصداقة ليست مجرد علاقة تتراكم بمرور السنين، ولا هي مجرد لقاءات متتابعة تُفرغ في كل منها كلمات فارغة، وحكايات عابرة.
الصداقة الحقيقية هي أكثر من ذلك، هي تلك اللحظات التي تلتقي فيها الأرواح قبل الأجساد، وتدور فيها القلوب قبل الألسن.
الصديق الحقيقي ليس الذي يشاركك في الضحك فحسب، بل الذي يلتقط صمتك حين يعجز لسانك عن التعبير، هو من يستطيع أن يفهمك عندما تكون الكلمات أضعف من أن تشرح ما في داخلك، لا يحتاج لأن تروي له كل شيء، بل يكفيه أن ينظر في عينيك، فيقرأ ملامحك، ويشعر بكل ما تحمله من أعباء وأحزان.
هو الذي يفهم أن غيابك ليس هجرًا، بل هو اللحظة التي يحتاج فيها قلبك للراحة، فيحترم ذلك كما يحترم حضورك.
وجود الصديق الحقيقي ليس مجرد طيف يمر في حياتك، بل هو وجود يمنحك الراحة في أحلك اللحظات، فحين تجده، تشعر بأنك ملكت كل شيء، ولو للحظات.
حديثه ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو طمأنينة تتسلل إلى قلبك، فتزيح كل همّ، وتطرد كل قلق، قد تكون الكلمات في فم الصديق أقل من أن تُعبر عن معانيه، لكن حضورهم يفعل ما تعجز عنه الأفواه.
الصديق الحقيقي لا يفرح لأخطائك، ولا يتلذذ بفشلك، بل هو الذي يشد على يدك في لحظات العثرات، هو الذي يرى فيك النور حتى عندما تتناثر أحلامك في العتمة.
لا يغار من نجاحك، بل يفرح لك، وكأن نجاحك هو نجاحه، ويشعر أن فوزك هو فوز لشريك عمره، هو الشخص الذي لا يسحبك إلى القاع، بل يرفعك إلى القمة.
دعاؤه في غيابك أثمن من كنوز الدنيا، لا يحتاج أن تكون موجودًا أمامه ليدعو لك، لأن دعوته لك هي تعبير عن محبته الحقيقية لك، تعبير عن إيمانه أنك تستحق الأفضل حتى عندما لا تكون بجانبه، في كل مرة تبتعد، تجد دعاءه يلاحقك، يحمك كدرعٍ واقية، ويهديك النور في طريقك.
الزمان والمكان لا يلزمان الصداقة الحقيقية، قد تتباعد المسافات، وتتفرّق الطرق، ولكن الصداقة الحقيقية لا تتغير، فحتى في غياب اللقاءات، تظل القلوب متشابكة، تسعى إلى بعضها كالمغناطيس، هي علاقة لا تُقاس بالوقت ولا بالعدد، بل بحجم المحبة التي تزرعها الأرواح، وبعمق الفهم الذي يتجاوز حدود الكلمات.
الصديق الحقيقي ليس هو من يقف بجانبك فقط في لحظات الفرح، بل هو الذي يمسك بيدك في أحلك الظروف، ويساعدك على الوقوف عندما تعجز عن السير، هو الذي لا يحتاج منك إلى تبرير، لأن معرفته بك لا تُقاس بحجم كلماتك، بل بحجم صدقك في وجودك.