لا يمكن فهم الأحداث الجارية الآن في سوريا، من دون العودة إلى الكاتب البريطاني باتريك سيل، الذي تخصص في سوريا، وألّف عنها عدة كتب مهمة، منها: «الأسد: الصراع على الشرق الأوسط»، و«الصراع على سوريا»، وأخيراً «الرئيس»، بالاشتراك مع فيرجينيا سيل.
في كتابه الأول، يتناول سيل كيف صعد الأسد الأب إلى السلطة، وكيف بنى دولة أمنية محكمة، وكيف تعامل مع الصراعات الإقليمية والدولية، وكيف لعب دوراً في الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، وأخيراً، الصراع مع إسرائيل، وكيف نظر إلى التحالفات الإقليمية مع سوريا.
أما في كتابه الثاني «الصراع على سوريا»، فقد عاد سيل إلى ما قبل الأسد بعقود، وغاص في الحالة السورية، وتناول المؤلف رحلة سوريا ما بعد الاستقلال، بدءاً من عام 1945، إلى عام 1958، حيث كانت سوريا مسرحاً، وساحة صراع بين القوى الكبرى «الولايات المتحدة الأميركية – بريطانيا»، إضافة إلى الدول العربية الكبرى.
وفي الكتاب ذاته، يحلل سيل لماذا كانت الانقلابات المتكررة، ولماذا كانت حالة عدم الاستقرار السياسي، ولماذا كانت التدخلات الغربية في الشأن السوري لا تتوقف، ولماذا قامت الوحدة المصرية – السورية، وكيف انتهت.
يمكننا الآن أن نفهم، لماذا جرى ما جرى في عام 2011، واستمر إلى عام 2024، عندما تغير النظام السوري بعد 55 عاماً من حكم الأسدين، ولعل ما شرحه سيل يكشف لنا الجوانب الأخرى في كتابه الثالث «الرئيس»، الذي قدم فيه سرداً مكثفاً لبعض الجوانب الشخصية للأسد الأب، وربطه بالأحداث الداخلية والإقليمية والدولية، وربطه أيضاً بالمواقف الاجتماعية والسياسية الداخلية.
فسوريا كما يقول سيل: دولة محورية، تؤثر وتتأثر بمحيطها العربي وغير العربي، فمن يسيطر عليها يؤثر في لبنان وفلسطين والأردن والعراق وتركيا، وعادة ما تتداخل فيها الألعاب السياسية الدولية.
عدت إلى كتابات باتريك سيل حول سوريا، لنفهم تأثير المعادلات القديمة في المشهد الجديد، فسوريا مجتمع متعدد الأعراق والإثنيات، والملل والنحل، ففيها السنة وهم أغلبية، والدروز، والعلويون، والمسيحيون، والكرد، وفيها الإسماعيليون.
كان يجب أن يكون هذا مصدر غنى، لكن القوى الدولية والإقليمية، رأت فيه أنه يمكن أن يكون مصدر شقاق، وأضيفت لهم الحالة الطارئة على الشرق الأوسط، منذ ثمانين عاماً، والتي تمثلت في النشأة الإسرائيلية التي لا تزال تشكل الهاجس الأكبر للأمن الإقليمي العربي، خصوصاً مع سوريا، التي تواجهت معها منذ عام 1948، ضمن دول عربية أخرى، وحتى الآن.
كان لافتاً، أن تستغل إسرائيل حالة السيولة، التي أعقبت الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 2024، وتهاجم القوات السورية، التي لم تكن مستعدة، ولا تزال، للاشتباك معها، ولم تفكر في الهجوم على إسرائيل.
ببساطة كانت مشغولة في محاولة لمّ الشمل السوري، بعد نهاية حكم الأسد الابن، لكن الهجوم الإسرائيلي لم ينتظر، وجاء مباغتاً، ليدمر إمكانات القوات المسلحة السورية، أو ما تبقى منها، في رسالة سيطرة على سوريا الجديدة.
وهذا يذكرنا بما قاله باتريك سيل، عن أن من يسيطر على سوريا، يستطيع أن يؤثر في جزء واسع من الإقليم العربي، وإسرائيل هنا تريد أن توسع من خريطتها، وقد يذكرنا هذا بما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرة، بأن مساحة إسرائيل صغيرة جداً، ولا بد من توسيعها.
إسرائيل التقطت الخيط من تصريح ترمب، وتوسعت في جنوب سوريا، وكسرت معاهدة فض الاشتباك الموقعة عام 1974، ودخلت على خط ما يحصل في محافظة السويداء، ووصلت إلى ريف دمشق. كما أنها لم تتوقف عن القصف، كما جرى في حماة، وحمص، واللاذقية، والساحل السوري عموماً، والمركز العلمي في دمشق. وأخيراً، استغلت الاشتباكات التي وقعت الأسبوع الماضي، بين الدروز في صحنايا وقوات الأمن، وقصفت محيط القصر الرئاسي بدمشق في كسر لكل أعراف الدبلوماسية العالمية، والقواعد المستقرة.
وقد عبرت جامعة الدول العربية عن الرفض التام للسلوك الإسرائيلي ببيان واضح، بأن على إسرائيل أن تعود إلى ما بعد اتفاق «فض الاشتباك»، وتنسحب من الأراضي السورية. وأشار البيان أيضاً إلى ضرورة عدم تدخل القوى الإقليمية والدولية في الأراضي السورية، والتأثير على مستقبل الدول العربية، العضو المؤسس للجامعة.
سوريا خريطة عربية تخص الإقليم العربي من دون سواه، أهمية موقعها – كما قال باتريك سيل – يجعل استقلالها واستقرارها رقماً مهماً في منظومة الأمن القوى العربي؛ بل يقطع الطريق أمام مطامح ومطامع إقليمية ودولية.
جربنا خلال الخمسة وخمسين عاماً الماضية، حالة الاستقطاب في سوريا، التي جعلت الإقليم العربي عرضة للخطر.
والشاهد أن الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، ليست موجهة إلى دمشق فقط، بل إلى قوى أخرى، ترى إسرائيل أن وجودها الفاعل على الأراضي السورية، يشكل خطراً على مستقبل مشروعها، هذه الذريعة استخدمتها إسرائيل في السابق تجاه قوى أخرى، كان لديها نفوذ في سوريا، لكن في الحالتين، فإن الواجب أن تكون سوريا للسوريين وحدهم، بجميع طوائفهم وثقافاتهم، وليست ساحة لتصفية الحسابات، أو مضمار سباق على النفوذ، وتكوين الإمبراطوريات.
أخيراً، أقول إن أي محاولة لتفتيت سوريا إلى كيانات صغيرة، سيكون وباء على الخرائط العربية والإقليمية، والحقيقة أن الزيارة إلى باتريك سيل في هذا التوقيت، مهمة وواجبة، لفهم ما الذي يجرى في عاصمة الأمويين.