بداية كونكلاف 2025: مرحلة حاسمة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية
بدءاً من بعد ظهر يوم السابع من مايو، تدخل الكنيسة الكاثوليكية مرحلة حسّاسة وحاسمة من تاريخها الحديث، إذ ينطلق كونكلاف 2025 لاختيار خليفة للبابا فرنسيس، في لحظة تتشابك فيها التقاليد الروحية القديمة مع تحوّلات العالم المعاصر وتحدياته.
فراغٌ ثقيل وتطلعات متناقضة
ليس هذا الكونكلاف وانتخاب البابا الجديد ترجمةً حرفيّة للشعار الروماني اللاأبالي: "مات البابا، فلنصنع بابا آخر!…". بل هو بالضبط ما وثقه فيلم "Conclave" للمخرج إدوارد بيرغِر: "مات البابا، فالعرش شاغر!". وبصرف النظر عن توجّهات القادم الجديد، فإنّ ذلك العرش بحاجة إلى من يُملأ فراغ الشغور فيه بذات المستوى والثِقَلْ، وبالذات اليوم، لإنّ ما تركه البابا فرانسيس، الذي رحل بعد عقدٍ ونيف من البابوية، فراغٌ كبير داخل الكنيسة الكاثوليكية. فقد كان أول بابا من الأميركيتين، وأول يسوعي يتبوأ هذا المنصب، وقد تميّزت حبريته بخطاب رعوي واجتماعي غير مسبوق، داعم للفقراء والمهمّشين، وناقد للمنظومة الرأسمالية والسلطوية داخل الكنيسة. لكن هذا النهج أثار أيضاً موجات من الجدل، لاسيّما بين صفوف الكرادلة المحافظين، وأعاد إلى الواجهة أسئلة قديمة حول توازن السلطة بين العقيدة والانفتاح، وبين المركزية الرومانية والكنائس المحلية.
الغرفة المغلقة في زمن الذكاء الاصطناعي
قبل دخول الكرادلة قاعة السيستين، تُتلى الصيغة اللاتينية التقليدية: "Cum clave, extra omnis"، أي "بالمزلاج، الغرباء إلى الخارج". يُغلق الباب الكبير، ويبدأ الطقس السرّي لانتخاب البابا الجديد. لكن في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي، لم تعد السرّية الكنسية أمراً بديهياً. لهذا، اتّخذ الفاتيكان سلسلة إجراءات غير مسبوقة لضمان العزلة التامة: أجهزة تشويش إلكترونية، حظر تام على الهواتف والساعات الذكية، رقابة مشدّدة على جناح الضيافة، وقَسَمٌ خاص يؤدّيه كل من يشارك في الخدمات اللوجستية للكرادلة.
بين المحافظين والإصلاحيين.. ومراكز القوى
أظهرت الجلسات العامة التي سبقت الكونكلاف انقساماً عميقاً بين تيارين داخل الكنيسة: تيار يسعى إلى مواصلة نهج البابا فرانسيس في الانفتاح الاجتماعي واللاهوتي، وآخر يدعو إلى استعادة الانضباط العقائدي وهيبة المؤسسة الكنسية. كما سُجّلت تدخلات غير مباشرة من أطراف سياسية، لا سيّما في الولايات المتحدة، حيث ضغطت أسقفيات محافظة لدعم مرشحين يميلون إلى إعادة الكنيسة إلى "الثوابت التقليدية". وبرز في هذا السياق الدور المتصاعد لجماعات من اليمين المسيحي الأميركي، ترى في الكنيسة معقلاً أخلاقياً ينبغي استعادته.
الاسم..أول الإشارات
هل سيحمل البابا القادم اسم بولص، يوحنّا، بينيديكتوس أم فرانسيس؟ أسماءٌ رمزية ومسارات استراتيجية. أربعة أسماء قد لاتعني، في حدّ ذاتها، اكثر من كونها أسماءَ عَلَمْ، لكنها تعني …اخل الكنيسة. بيتر إردو (المجر): كاردينال بودابست، محافظ متزن، يحظى بدعم من يسعون إلى تشديد الانضباط اللاهوتي وإعادة الهيبة للمؤسسة.
من شرفة بطرس إلى قلب العالم
حين يُطلّ عميد المجمع الكردينال من شرفة كاتدرائية القديس بطرس ليعلن: "Habemus Papam – لدينا بابا"، سيبدأ فصل جديد من التاريخ الكاثوليكي. فخيارات الاسم والانتماء الجغرافي والنبرة اللاهوتية، ستُفسّر فوراً كرسائل ضمنية فـ: "فرنسيس الثاني" سيعني الاستمرار لمسار الانفتاح والرعاية الاجتماعية. "بندكتوس السابع عشر"؟ يعني عودة إلى صرامة الفكر والتقليد. اسم جديد كلياً؟ وهو ما سيفتح باب الاحتمالات والتحوّلات. وسيكون العالم والكنيسة في انتظار ما سيضعه البابا الجديد من استراتيجيّات.
قائد في مرحلة مفصلية
أياً يكن، فإن البابا الجديد لن يكون فقط قائداً روحياً، بل أيضاً إدارياً، وسياسياً بنحو غير مباشر. عليه أن يواجه تحديات كبرى: تراجع الثقة في الكنيسة في الغرب، تنامي الحضور الكاثوليكي في إفريقيا وآسيا، مطالب الشفافية بعد قضايا الاعتداءات الجنسية المقترفة من قبل رجال دين في مستويات رفيعة، الفساد المالي داخل الفاتيكان، وصدامات ثقافية حول الأخلاق والدور الاجتماعي للدين. وعليه أيضاً أن يتفاعل مع ملفات كبرى مثل الذكاء الاصطناعي، والتغير المناخي، والهجرة، وأن يُجدّد أدوات الحوار مع الأديان الأخرى وسط تصاعد الخطابات المتطرفة.
الكونكلاف.. تاريخ من الغرائب
على مدى قرون، عرف الكونكلاف لحظات نادرة وغريبة: عام 1268، امتد انتخاب البابا لأكثر من عامين في مدينة فيتربو، حتى اضطر السكان إلى خلع سقف القاعة لتسريع التصويت! في 1513، انتُخب ليو العاشر وهو لم يتجاوز الـ45، في زمن كانت فيه الكنيسة مركز الثروة والسلطة. عام 1978، توفي يوحنّا بولص الأول بعد 33 يوماً فقط من انتخابه، وهو ما فجّر تكهنات واسعة وأدخل الكنيسة في سنة الـ "الباباوات الثلاثة". اليوم، رغم كل التكنولوجيا، يبقى المشهد كما هو: غرفة مغلقة، دخان أبيض أو أسود، وقلوب المؤمنين تترقّب.
الكلمة الفصل
الكونكلاف ليس مجرد انتخاب ديني، بل لحظة استفتاء عالمي على مستقبل الكنيسة الكاثوليكية. فكل بابا جديد هو، في الجوهر، مشروع جديد. وقد يأتي التغيير من حيث لا يتوقعه أحد. هل سيكون مفاجأة جغرافية؟ أم لاهوتية؟ أم رمزية؟ الأكيد أن الملايين سينتظرون العبارة ذاتها، التي تُعلن في كل مرة فتح فصل جديد من الإيمان والتاريخ: Habemus Papam "لدينا بابا".