وجدتُ منشوراً وُضِعَ على سيارتي في بريطانيا يقول: «هل تعلم أن من بين كل أربعة بالغين في البلاد هناك شخص واحد يعاني من مرض نفسي». تخيَّلت كيف ستكون بيئة العمل إذا لم نعرف طبيعة كل مرض نفسي، أو سارعنا لوضع شخص في منصب لا يناسبه، كالمفرط في النرجسية أو المصاب بجنون العظمة.
ولذلك فإن الكفاءة ليست مقصورة على مهارات الفرد فحسب، بل تشمل «الاتزان النفسي»، الذي نلمسه في سلوكياته وتعاملاته. ولهذا فإن تسلل بعض الاضطرابات النفسية «الشديدة» للعمل دون تشخيص أو دعم ملائم قد يعرقل الإنتاجية والتعاون، وقد يُربك إيقاع العمل.
العاملون في الموارد البشرية يدركون أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أنواع في اضطراباتهم النفسية. الفئة الأولى «عالية الخطورة»، وتتطلب بيئات عمل خاصة وداعمة، وقد لا تتناسب مع متطلبات المناصب القيادية أو العمل تحت وطأة الضغوطات. مثل حالة «الفصام»، وهو اضطراب في التفكير والإدراك قد يعاني المصاب به من تصورات غير واقعية، كالشعور بأصوات أو مواقف لا وجود لها. هناك «الشخصية الحدية»، التي تظهر عليها انفعالات متقلبة وسلوكيات يصعب التنبؤ بها، وتحدث تصدعاً كبيراً في العلاقات. أمّا الشك المفرط فيظهر في «البارانويا»، حيث يستحوذ على تفكير صاحبها النظرة العدائية التي تعوق مسيرة العمل الجماعي. أمّا المشكلة الكبرى فهي التعامل مع «ثنائي القطب» الذي يعاني من تقلبات مزاجية حادة بين النشاط المفرط والانطواء.
الكفاءة لغة تعني الجدارة والاستحقاق. فحينما يقال: «فلان كفء» أي جديرٌ ومستحقٌّ لما أُوكل إليه. وهو ما يعني أن الكفاءة المهنية لا تكتمل من دون التوازن النفسي.
وهذا يجرنا للفئة الثانية من العاملين التي لديها «اضطرابات متوسطة التأثير»، مثل «الاكتئاب» وهو انخفاض حاد في الطاقة والتركيز والإقبال على الحياة لكنه لا يلغي الكفاءة. وهناك «القلق» الذي يعد توتراً دائماً، يؤثر على اتخاذ القرارات. ومنه أيضاً معاناة «الوسواس القهري» الذي يتسم بدقة مفرطة قد تبطئ الإنجاز.
هناك أيضاً «سلوكيات شخصية مزعجة»، لكنها تؤثر على مناخ العمل كالتسلط والعدوانية والنقد المتكرر.
ولذلك تطبق جهات العمل، قبل التوظيف، أدوات تقييم موثوقة تكشف الفئة الأولى التي قد تضر بيئة العمل بشكل جذري، وتتطلب بيئة أخرى داعمة. ولهذا عندما قُدت لجان توظيف، كنا نطرح أسئلة سلوكية ومواقف افتراضية لكشف بوادر السلوكيات.
ومهما بلغت قوة لجان التوظيف فإنها لا يمكن أن تتنبأ بالسلوك لاحقاً. من هنا يأتي دور تقييم الأداء لاكتشاف الخلل وتقديم الدعم.
مشكلتنا في العالم العربي أننا لا نكشف عن تحدياتنا النفسية خشية من «وصمة العار»، وهي مسألة تتطلب وقتاً طويلاً لتنمية الوعي الجمعي وتفهم حاجات الإنسان. فالاضطرابات النفسية قد تُصيب أي شخص فجأة، بسبب حادث أو صدمة أليمة، ما يستدعي تفهماً ودعماً قبل إطلاق الأحكام المسبقة.