سراج: رحلات روحانية في الفن الإسلامي
تنوعت الطرق والوسائل والأفكار التي تعكس تمثل الفنانين في مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية، لشعار الدورة الحالية «سراج»، ولعل من تلك الرؤى التي طرحت من قبل بعض المبدعين في المعارض المختلفة، تلك الرحلات الروحانية العامرة بالإيمان والإشراقات النورانية نحو أزمنة في ماضي الحضارة الإسلامية عبر الاشتغال على مفردات وعناصر تراثية تعبر عن فكرة النور الذي يتنزل على النفس البشرية فيغمرها بالرضا والضياء.
إبداعات فنية فلسفية
إبداعات لا تخلو من البعد الفلسفي، إلى جانب احتفاظها بالأبعاد الجمالية، تلك التي تبارى الفنانون وتنافسوا في تقديمها في المهرجان، وربما كانت من أبرز المساهمات تلك التي قدمها الفنان الإسباني أنطونيو سانتين بعنوان: «التسخين المدي»، وتضم عددا من اللوحات والتكوينات البديعة المذهلة التي تنم عن براعة فنية كبيرة، وتتناول فكرة السجاد في عصور إسلامية مختلفة، والمتأمل لهذه اللوحات يسافر نحو تلك الأزمنة بجناحي الشوق والحنين.
لوحات سانتين
وتعد لوحات سانتين إنجازات فنية آسرة، حيث تُضفي الطلاءات الزيتية إحساساً بوجود نسيج محكم، مع عمق بصري وحضور نحتي لافت، وقد اشتهر بسلسلة أعماله التي تتناول السجاد، محوّلاً القماش التقليدي إلى سطح ملموس يكاد يتخذ طابعاً معمارياً، وذلك من خلال تقنية مبتكرة تقوم على الانبثاق الهوائي وطبقات من «السفوماتو»، أي التدرجات اللونية، حيث يستغرق إنجاز كلّ عملٍ ما يصل إلى عام كامل، فيدفع بذلك حدود الواقعية والتجريد، ويدعو المتلقّي إلى تجربة حسّية تُعنى بالإدراك بقدر ما تعنى بفنّ الرسم، ولعل عنوان العمل نفسه «التسخين المدي»، يشير إلى الطاقة الإبداعية الحيوية، ويعبّر في الوقت نفسه عما يجول في داخل الفنان نفسه من أفكار وتجديد وتنفيذ.
رحلات روحانية
واللوحة تنتمي إلى عمق تفكير وتجربة الفنان الذي بدأ مشواره بتصوير الشكل البشري، قبل أن يتحول تدريجياً إلى الأنماط الزخرفية للسجاد، والتي يصفها بأنها «لوحات تصويرية بلا شكل»، فشكّل هذا التحوّل عمقاً مفاهيميّاً، إذ استخدم الغياب كوسيلة للتأمل في الوجود والوهم والوزن النفسي، حيث تستند أعماله إلى التقاليد الكلاسيكية، لكنه يقلبها رأساً على عقب، مستخدماً اللون والظل لا للزينة فحسب، بل لتعريف الفضاء والإحساس، إذ إن سانتين هو فنان عُرف بلوحاته المفرطة بالواقعية والدرامية، التي تجسّد نسيجاً زخرفياً منفذاً ببراعة فائقة.
فن إسلامي معاصر
ولعل المتأمل في اللوحة يلاحظ أن أعمال الفنان تقوم على بناء تراكيب وطبقات مذهلة لزخارف معقدة على السجاد، بإيحاء وملمس واقعيين تماماً، مع تثنيات وتموجات تجذب العين وتجعل المشاهد يغرق في التفاصيل والروح المفعمة بالذكريات، وذلك عن طريق التركيز على التيكتشر، أي الطلاء الخشن الملمس وإبداعات منظومة الظل والضوء التي تغري المشاهد بالوصول إلى كومة السجاد ولمسها، واللافت في اللوحة هو بساطة الموضوع والذي يعرض لوحة ثنائية الأبعاد على قماش كتاني مثبتة على الحائط، وبشكل عام يمكن اعتبار أعمال هذا الفنان من ضمن الأمثلة الرائعة على كيفية عمل الوحدة في العمل الفني، دون فقدان عناصر التنوع، مع الابتعاد عن الملل عبر التفاصيل الزخرفية الوافرة والمتقنة من خلال تلك التثنيات البديعة التي تعبر عن الحركة وعدم الثبات.
براعة فن يدوية
ولعل اللوحة تؤكد كذلك على البراعة في الفن اليدوي، الذي يظل صامدا رغم التكنولوجيا، حيث إن ذلك الإبداع الذي يمارس بفعل يد الفنان هي بمثابة أيقونة محتشدة بالفعل الفني الدرامي.
مدن النور
وتتواصل رحلة النور هذه مع ذلك المدد الإبداعي الكبير المتمثل في أعمال الفنانة الكندية لوريلي راي، والمقدمة في المهرجان بعنوان «مدن النور»، والذي هو عبارة عن عمل فني معاصر قائم على البحث والتأمل، حيث يجمع ما بين التبجيل التاريخي وتعظيم أزمنة مضت، والابتكار البصري، ليعيد وصل ما انقطع بين الماضي والحاضر.
فن إسلامي معاصر
ولعل اسم المشاركة «مدن النور»، هو مستوحى من كتاب الفنانة نفسها لوريلي المعنون ب»مدن الفن الإسلامي: المجلد الثاني»، حيث تعتمد الفنانة على إنجاز أعمال بصريّة تعيد تشكيل النظرة إلى المدن الإسلامية، وإلى الحرفيين الذين صاغوا معالمها، تكريماً لهم، واستعادةً لذكراهم، واحتفاء بعطائهم.
لوحة كتاب النجوم الثابتة
واللوحة التي اخترناها من هذا المعرض جاءت بعنوان: «كتاب النجوم الثابتة»، حيث برعت الفنانة في توظيف الألوان المائية الثابتة، إلى جانب الذهب على الورق المصنع يدويا، واللوحة تقدم شكلا عامرا بالتفاصيل الروحية والبديعة مع التركيز على اللون الأزرق الفاتح في تكوين سردية بصرية ومكانيّة غامرة، تسمو بالثقافة البصرية الإسلامية، في تجلياتها المتعدّدة، المحلية منها والعابرة للحدود.
سراج رمزي
تستلهم الفنانة في العمل الدلالات الرمزية والتأملية للسراج، فهي ترى أن الفنّ الإسلامي بجميع أشكاله وتجلّياته، سراج رمزي ينير مسارات مجتمعاتنا وثقافاتنا وحضاراتنا، ولعل ذلك المنظور الفكري يتضح جليا في ثنايا هذه القطعة الفنية الأيقونية التي تؤكد على رؤية جمالية فريدة تخاطب الأرواح والعقول، حيث ان العمل هو بمثابة رحلة إلى دهاليز الحضارة الإسلامية وتراثها الغني بالإبداعات والفنون.

