مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي 2025
فيلم “إركالا: حلم جلجامش”: محمد الدراجي يعزف على مقام الغد المظلم
جدة – عبدالستار ناجي
يظل المخرج العراقي محمد جبارة الدراجي منشغلًا بالأطفال في النسبة الأكبر من أعماله، حيث يشكلون بالنسبة له الحلم والغد والمستقبل. فكيف إذا كان هذا المستقبل امتدادًا لظروف مشبعة بالألم والقهر والمعاناة، وامتدادًا لأزمنة هي حصاد الديكتاتورية؟

في فيلم محمد الدراجي، نحن أمام حالة من التشابك شديد القسوة والالتحام بين الحالة الراهنة في العراق، بغداد على وجه الخصوص، والأساطير القديمة العالقة بين أنقاضها، مع خيال جيل الشباب العراقي المستقبلي البريء. يأتي ذلك على خلفية التظاهرات التي اجتاحت العاصمة العراقية والممارسات التي راحت تتحرك بشكل معاكس ويسقط ضحيتها الكثير من الأطفال الأبرياء.
تتكشف أحداث الفيلم في شوارع وأزقة بغداد التي مزقتها الحرب والقادمة من رحم معاناة وألم، حيث تتسرب الأساطير القديمة من بين غبار وحطام الحياة المعاصرة. الطفل الموهوب (يوسف هشام الذهبي)، الذي يجسد شخصية “تشوم تشوم” بعفوية وعمق بالغ، هو واحد من بين العديد من الأطفال المشردين الذين تزدحم بهم العاصمة بغداد. ومن بين آثار الصراع العسكري والمظاهرات، نجد بطل الفيلم الطفل البريء ومجموعة أصدقائه الأيتام، الذين استُبدل القتال المسلح بالنسبة لهم بنضالهم وتعبهم اليومي من أجل الطعام والمأوى والأمان. وتظل السلوى الوحيدة له ولأصدقائه هي أحد مسلسلات الرسوم المتحركة الخيالية للأطفال عن شخصية “جلجامش” ورحلته الشهيرة بحثًا عن الخلود بصحبة صديقه أنكيدو، يشاهده – تشوم تشوم – وفي عقله المُثقل بالحزن، تمتزج صور المسلسل البسيطة والملونة بلمحات من الأساطير ، مُقنعةً إياه بأن نهر دجلة يُخفي بوابةً إلى عالم إركالا السفلي السومري. خيال خصب يظل يحاصر “تشوم تشوم” ويسيطر عليه ويجعله في حالة من الغربة عن الواقع بكل المه وقسوته .

وبخط متوازٍ وفي بناء بصري عال الجودة، تتلألأ شوارع المدينة المتشققة وجدرانها المشبعة بالشعارات والمُثقبة بالرصاص بلمحات شبحية لشخصيات أسطورية، تُصبح أبطالًا مُفعمين بالأمل في أحلام “تشوم تشوم” الذي يؤمن أنه إذا استطاع العثور على بوابة إركالا، فإنه سيتمكن من إعادة والديه الراحلين إلى الحياة. إنها فكرة مؤثرة ومأساوية في آنٍ واحد. إن سذاجتها المُفرطة تُعدّ في حد ذاتها أثرًا نادرًا لأحلام الطفولة في عالمٍ لا مكان فيها لها. وهنا نؤكد أن المخرج والكاتب محمد الدراجي استطاع أن يذهب إلى وعي وإدراك تلك المرحلة العمرية ويستحضرها بذكاء وعمق شديدين . بل ان كتابته لشخصية – تشوم تشوم – تأتى من منظور فهمة الدقيق للشخصية والظروف التى تحيط بها .

تنغزل رحلة “تشوم تشوم” مع حكاية صديقه المقرب “مودي” (حسين رعد زوير)، فتى مراهق عدواني يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا، على وشك الانضمام إلى الميليشيات. ممزقًا بين جاذبية الأسطورة المستوحاة من ملحمة جلجامش والواقع الوحشي المحيط به، ينجرف “تشوم تشوم” نحو مخاطر خفية. وكما هو حال شخصيته الطفولية، تتأرجح أحداث الفيلم بين الرمزية والخرافة والواقعية. يصبح المشهد الحضري المتداعي بطلًا بحد ذاته، حيث توفر المباني المهجورة وضفاف النهر الوعرة ملاعب محفوفة بالمخاطر، وأسرارًا قديمة، وملاذات من عالم شكّلته الصدمات. تضفي اللقطات المحمولة باليد والضوضاء المحيطة وتفاصيل الشوارع غير المصقولة على المشاهد أصالةً واقعية . ضمن ايقاع متسارع واحداث تظل في لحظات كثيرة متماسكة وفي احيان اخري مترهلة .

وهناك خط محوري ثالث من خلال شخصية المعلمة التي فقدت زوجها وبناتها على يد إحدى الميليشيات، وقررت أن تنذر حياتها لرعاية الأطفال الأيتام في شوارع بغداد (هذا الجانب من الفعل الروائي مقتبس من حكاية حقيقية كان قد شاهدها المخرج في أحد شوارع الهند وقرر دمجها في أحداث الفيلم). وتقوم هذه المعلمة بتحويل باص إلى مدرسة تجمع به الطلاب والطالبات وتقوم بتعليمهم، وأيضًا العمل على إطعامهم، في إطار شخصية ذات مضامين وقيم إنسانية كبرى تم تجسيدها بعناية فائقة.
وفي العمل الكثير من الشخصيات، وبالتالي الأحداث، حيث تُطغى كثرة الشخصيات والخطوط السردية على الإطار السردي الهش، متأرجحةً بين تصوير الفقر بصورة رومانسية، والتشاؤم القاتم، والصور النمطية المزعجة للرجولة المبكرة. ولا تُستكشف المواضيع الجذابة، كقوة السرد في الشفاء أو التضليل، بشكل كافٍ. بل إن جملة من المشاهد تبدو عبئًا ثقيلًا على النص، مثل حكاية شقيقة “تشوم تشوم”، والشخصية الغريبة التي تقيم على شاطئ دجلة، وكم آخر من الشخوص والأحداث التي ساهمت في أن تسرق نسبة كبيرة من مسارات وتطور الشخصيات المحورية في الفيلم، بالذات عمق الصداقة التي جمعت بين “تشوم تشوم” و”مودي” والتطور في كل شخصية منهما.

الأسلوب الذي اشتغل عليه المخرج محمد الدراجي هو الأسلوب الذي يريده لجمهوره الذي يعرفه، لكنه وبكثير من الشفافية نقول بأنه أسلوب ليس مبتكرًا بالمعنى الدقيق، إذ اختار المخرج مزيجًا من التصوير بالكاميرا المحمولة ولقطات الطائرات المسيّرة للمدينة ومشاهد التظاهرات، وأيضًا الفقر والفوضى والخراب حيث يلجأ أطفال الفيلم. ولكن هنالك فضاءات جديرة بالتوقف عندها، من بينها مشاهد الرسوم المتحركة التي صنعت خصيصًا لتحريك خيالات الأطفال وبالذات الطفل “تشوم تشوم” المسحور بالخيالات وبلوغ “إركالا” الحلم.
وسيظل مشهد – تشوم تشوم – وصديقة – مودي – على احد جسور بغداد وتلك الاغنية التى راح يكررانها من المشاهد المشبعة بالمضامين المكتوبة والمرسومة بعناية فائقة واحد من المشاهد الهامة في اعمال المخرج محمد الدراجي والسينما الجديدة .

ويبقى أن نقول بأن المخرج محمد الدراجي في “إركالا – حلم جلجامش”، يعزف على مقام شديد الصعوبة، ألا وهو المستقبل والغد المظلم… لأطفال ولمدينة يظل الحلم مجرد طوق نجاة وسط أمواج دجلة التي تبتلع يوميًا الجثث التي تتساقط كالمطر.

