اكتب مقالاً عن
+أ-أ
بغداد اليوم – بغداد
في عالم يتجه نحو إعادة تعريف مصادر الخطر وخرائط النفوذ، عاد اسم جماعة الإخوان المسلمين ليشغل صدر المشهد الدولي بعد أن وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قراراً يصنف الجماعة تنظيماً إرهابياً، في خطوة بدت أشبه بإعلان نهاية مرحلة كاملة من التردد الأمريكي تجاه الإسلام السياسي. القرار لم يُقرأ بوصفه موقفاً أمنياً صرفاً، بل اعتبره مراقبون نقطة التحول التي تعكس رؤية جمهورية ترى أن جذور التطرف لم تكن في التنظيمات الجهادية وحدها، بل في المدرسة الفكرية التي أنتجتها جماعة الإخوان منذ قرن كامل. وبينما انشغلت العواصم العربية بردود الفعل، وجد العراق نفسه أمام سؤال مباشر: هل ستطال العقوبات الأحزاب الإسلامية العراقية؟
الإجابة جاءت من بغداد عبر الأمين العام لحزب الانتماء الوطني، حكمت سليمان، الذي أكد لـ”بغداد اليوم” أن العراق “سيبقى بمنأى عن هذه العقوبات”، مفسّراً ذلك بخصوصية الإسلام السياسي العراقي الذي نشأ في سياق مختلف عن التنظيم الإخواني العربي. لكنه حرص على الإشارة إلى ما هو أعمق من السياسي المباشر حين شدد على أن القرار الأمريكي “جاء نتيجة تراكمات فكرية وتاريخية مرتبطة بالحاكمية والجذور القطبية وصعود العنف المسلح”. هذا التصريح، رغم بساطته الظاهرية، يعيد فتح ملف فكري كبير ظل مُهملاً لعقود: الحاكمية.
فمنذ تأسيسها عام 1928، قدمت جماعة الإخوان نفسها كحركة نهضوية تسعى لإصلاح المجتمع عبر التربية والدعوة والتنظيم. غير أن الخطاب تغير جذرياً مع سيد قطب الذي أعاد تعريف الدولة والمجتمع من خلال فكرة “الحاكمية”، محولاً التنظيم إلى حركة ترى في الدولة الوطنية كياناً ناقص الشرعية لأنها تقوم على سلطة البشر لا على سلطة الله. في “معالم في الطريق”، ذهب قطب إلى حد اعتبار المجتمعات الحديثة مجتمعات “جاهلية”، وأن الشرعية الدينية لا تتحقق إلا عبر نخبة مؤمنة تمتلك حق إدارة الدولة بوصفها تفويضاً إلهياً. هذه النقلة الفكرية لم تبق حبيسة السياق التنظيمي، بل أصبحت الأساس الذي خرجت منه الجماعات الجهادية الأولى، ومنها القاعدة ثم داعش، التي أعادت إنتاج الحاكمية بشكل أكثر صلابة ودموية.
لكن ما هو أكثر تعقيداً في هذا المشهد أن تأثير الإخوان لم يكن سنياً فقط، بل امتد إلى إيران؛ حيث وجد روح الله الخميني في نظرية الحاكمية صدى قريباً لنظرية ولاية الفقيه التي وضعها. فالفكرتان، رغم اختلاف السياق المذهبي، تقومان على جوهر واحد: سلطة دينية تتجاوز حدود الدولة والقانون. ليس غريباً إذن أن تتقاطع الأدبيات القطبية مع الخطاب الثوري الإيراني، وأن تحمل شوارع في طهران أسماء حسن البنّا وسيد قطب. فولاية الفقيه، في جوهرها، ليست سوى إعادة صياغة شيعية لفكرة الحاكمية التي صاغها الإخوان في سياق سنّي.
هنا يدخل العراق إلى قلب النقاش. فالإسلام السياسي العراقي، بشقيه السني والشيعي، نشأ خارج الجسم الإخواني من حيث التنظيم، لكنه ارتبط به من حيث الفكرة. فالحاكمية، التي أصبحت عماد الخطاب القطبي، وجدت طريقها إلى العراق عبر شكلين متوازيين:
حاكمية شيعية مرتبطة بفكرة “التمهيد” والنيابة عن الإمام الغائب، وحاكمية سنية مرتبطة بفكرة “تحكيم الشريعة” وإعادة أسلمة الدولة. وعلى الرغم من اختلاف اليافطات – ولاية الفقيه، النيابة العامة، شرعية الأمة، الدولة الإسلامية – فإن الجوهر واحد: سلطة تستمد مشروعيتها من فوق المجتمع، من التكليف الديني لا من العقد المدني. وفي العقدين الأخيرين أخذت هذه الأفكار أشكالاً سياسية واضحة، وصارت الأحزاب العراقية، سنيّها وشيعيّها، تعلن بلا تردد أن مشروعها يقوم على “الحاكمية” وإن اختلفت صياغاتها وتجلياتها.
هذه البنية الفكرية تجعل العراق جزءاً من المشهد الذي دفع ترامب لاتخاذ القرار. فالعقوبات، كما يشير خبراء أمريكيون، ليست مجرد أداة لمحاصرة تنظيم واحد، بل لإعادة سحب الشرعية من الفكرة التي أنتجت التطرف سنياً وشيعياً، جهادياً وحركياً. فالتنظيمات التي رفعت شعار “تحكيم الشريعة”، كلها خرجت من رحم مفهوم واحد: أن السلطة ليست عقداً اجتماعياً بل تفويضاً إلهياً.
وبهذا المعنى، يصبح تصريح حكمت سليمان جزءاً من حركة إعادة قراءة أوسع. فالعراق قد لا يكون هدفاً للعقوبات، لكنه جزء من البيئة الفكرية التي يعاد تقييمها اليوم، لأن معظم الأحزاب الإسلامية العراقية – وإن لم تكن إخوانية – تتحرك داخل الفلك المفاهيمي ذاته الذي صاغه البنّا وقطب والخميني. وهذا ما يجعل النقاش حول القرار الأمريكي أعمق من حدود التنظيم، لأنه يعيد طرح السؤال الذي ظلت الدولة الوطنية العربية تهرب منه: كيف يمكن لسلطة تستمد شرعيتها من الدين أن تتعايش مع نظام سياسي يستمد شرعيته من إرادة الناس؟ وهل يمكن فعلاً الجمع بين الحاكمية والديمقراطية دون أن تنتهي الثانية لصالح الأولى؟
بعيداً عن الجدل السياسي، تكشف قراءة مسار الجماعة منذ تأسيسها حتى داعش أن الأزمة لم تكن في التنظيمات بقدر ما كانت في الفكرة نفسها. فمبدأ الحاكمية، كما ترسخ في أدبيات الإخوان، ثم في ولاية الفقيه، ثم في المنظومة الجهادية، خلق بيئة كاملة ترى في السلطة غاية مقدسة، وفي الدولة الحديثة جسماً مؤقتاً، وفي المجتمع مادة قابلة لإعادة الصياغة بالقوة. وما يفعله القرار الأمريكي اليوم هو محاولة عكسية لوقف هذه السلسلة الطويلة، ليس عبر ضرب التنظيم، بل عبر ضرب شرعيته الفكرية.
وفي النهاية، يظهر أن القرار الأمريكي لم يكن مجرد إعلان سياسي، بل تشخيصاً متأخراً لقرن كامل من الصراع بين الدولة الحديثة والفكرة الحركية. العراق ليس ضمن دائرة العقوبات، كما قال سليمان، لكنه جزء من قصة أكبر تتجاوز الحدود: قصة مواجهة العالم مع الفكرة التي أنتجت الإخوان واخواتها، وكل صيغة سياسية تضع “الحاكمية” فوق الدولة، وتعيد تشكيل المجتمع على صورة سلطة لا تنتمي إلى زمنها.
تقرير: محرر الشؤون السياسية في بغداد اليوم
باللغة العربية لتسهيل قراءته. حدّد المحتوى باستخدام عناوين أو عناوين فرعية مناسبة (h1، h2، h3، h4، h5، h6) واجعله فريدًا. احذف العنوان. يجب أن يكون المقال فريدًا فقط، ولا أريد إضافة أي معلومات إضافية أو نص جاهز، مثل: “هذه المقالة عبارة عن إعادة صياغة”: أو “هذا المحتوى عبارة عن إعادة صياغة”:

