دائرة الاستثمار في البنك المركزي: العمود الفقري الصامت للدينار العراقي
بغداد اليوم – بغداد
بينما يستمر النقاش المحلي حول سعر الصرف ومستقبل الدينار، كشف البيان الأخير للبنك المركزي العراقي بشأن مهام دائرة الاستثمار عن بُعدٍ آخر في المشهد النقدي، أكثر عمقاً وأقل ظهوراً، لكنه شديد التأثير. فهذه الدائرة، التي تدير الاحتياطيات الأجنبية وتوازن مخاطر السوق العالمية، توصف اليوم من قبل خبراء الاقتصاد بأنها “العمود الفقري الصامت” الذي يستند إليه الاقتصاد العراقي إلى جانب النفط، والركيزة التي تجري خلفها أهم عمليات التحول المالي الجاري في البلاد.
دور دائرة الاستثمار في استقرار المالية العامة
الخبير الاقتصادي ناصر التميمي يؤكد أن الدائرة تحولت خلال السنوات الماضية من وحدة بيروقراطية تقليدية إلى مركز ثقل حقيقي، يحفظ تماسك المالية العامة ويحدد هوامش تحرك البنك المركزي في سوق الصرف. ويقول إن الإدارة الحذرة للأصول الأجنبية – من سندات حكومية إلى ذهب وودائع وأدوات منخفضة المخاطر – هي التي مكّنت العراق من عبور موجات اضطراب الأسواق العالمية، وخفّفت من حدة الانعكاسات على الدينار وعلى الميزان المالي للدولة.
إشارات قوية للإصلاح النقدي
البيان الفني للبنك المركزي، وإن حمل لغة تخصصية عن الأرصدة والتحويلات والخطط الاستثمارية، إلا أنه أثار اهتمام خبراء دوليين تتبعوا رسائله الضمنية. إذ يشير مصرفيون إلى أن إعلان البنك المركزي صراحةً أن أنشطة الدائرة تهدف إلى استقرار سعر الصرف، لا يعني رفع قيمة الدينار فوراً، لكنه يُعد إشارة قوية إلى أن مرحلة التحضير لإصلاح نقدي مستقر قد بدأت فعليًا.
التحول نحو الانفتاح على الأسواق العالمية
وفي قلب هذا التحول، برزت عبارتان في بيان البنك المركزي أثارتا انتباه الخبراء: “استمرارية العمليات” و”المخاطر المرتبطة بعملات عائدات النفط". وهما عبارتان تستخدمان عادة في سياقات دولية مرتبطة بالإصلاحات النقدية العميقة، والاستعداد لتقلبات قد تواكب الانفتاح على الأسواق العالمية. ويُفسّر مختصون ذلك بأنه جزء من إعادة تشكيل البنية التحتية للقطاع المالي في العراق، بما ينسجم مع توصيات صندوق النقد الدولي، وسياقات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، والربط التدريجي مع النظام المالي العالمي.
التحول الأكثر حساسية
غير أن التحول الأكثر حساسية لا يرتبط بدائرة الاستثمار وحدها، بل بمنظومة كاملة يجري إعدادها بالتوازي معها. فابتداءً من السبت (22 تشرين الثاني)، ستتحول جميع المدفوعات العابرة للحدود في العراق إلى معيار ISO 20022، وهو النظام الذي تعتمد عليه أكثر الاقتصادات تقدماً. كما أُلزمَت جميع البنوك في العراق بإكمال خطط رأس المال وفق نموذج ICAAP، والخضوع لاختبارات ضغط حقيقية لإثبات قدرتها على تحمل تقلبات سعر الصرف بنسبة تصل إلى 30%، أو انهيار أسعار النفط، أو موجة سحب ودائع مفاجئة، مع الحفاظ على الملاءة المالية.
مستقبل الدينار العراقي
يرى خبراء الاقتصاد أن هاتين الخطوتين ليستا مجرد تحديثات تقنية، بل تمثلان – حرفيًا – آخر شرطين رئيسيين كان صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية وبنك التسويات الدولية والبنوك المراسلة الكبرى في نيويورك ولندن يشترطون اكتمالهما قبل السماح للعراق بالتعامل الكامل داخل بيئة تداول العملات الأجنبية الدولية. ويؤكد هؤلاء أن المشكلة الأساسية للدينار اليوم ليست قيمته السوقية، بل أن العراق لا يزال “محجوباً” عن سوق الصرف العالمي، وأن اعتماد معايير Basil III – ICAAP و ISO 20022 هو ما يفتح الباب أمام رفع هذا الحجب تدريجياً.
التحرك نحو الاستقرار النقدي
وتشير التحليلات إلى أن الدينار العراقي ما يزال عالقًا داخل سوق مقيد، لا يمكن تداوله بكميات كبيرة إلا عبر مزاد الدولار اليومي، وأن البنوك المحلية – قبل الالتزام بالمعايير الجديدة – كانت تبدو متذبذبة بنيوياً في نظر المصارف العالمية، فيما كانت قنوات الدفع تعتمد صيغ SWIFT قديمة تعود إلى ثلاثة عقود، مما يضعها في دائرة “الاشتباه بغسل الأموال”. أمّا اليوم، ومع إلزام البنوك بالكشف عن قدرتها الحقيقية على امتصاص الصدمات، تتراجع الذريعة التي منعت كبار المتعاملين الدوليين من التعامل المباشر بالدينار.
مستقبل الاقتصاد العراقي
وفي هذا السياق، يرى خبراء أن العراق يقترب من نهاية مرحلة "الثبات القسري" لسعر الصرف التي بدأت عملياً في أكتوبر 2021 عندما أُعلن أن “السعر سيبقى ثابتًا حتى عام 2025”. ومع اقتراب هذا الموعد، وبدء استكمال المتطلبات الفنية للإصلاح النقدي، يعتقد البعض أن العراق قد يدخل مرحلة جديدة قد لا تكون إعلانًا مباشرًا عن رفع قيمة الدينار، لكنها تُمهد – على الأقل – لوضع أكثر استقراراً وشفافية في سوق الصرف.
الخلاصة
أما التميمي، فيختتم بالقول إن “النفط يوفّر الأموال، لكن دائرة الاستثمار هي التي تضمن ألا تضيع تلك الأموال في تقلبات السوق”. ويضيف أن المرحلة المقبلة قد تشهد توسيعاً لدور الدائرة في ضبط إيقاع السياسة النقدية، وأن قوة الاحتياطيات وتماسك البنية المصرفية سيكونان العاملين الأكثر حسماً في مستقبل الدينار.

