اكتب مقالاً عن
+أ-أ
بغداد اليوم – بغداد
يتقدم الاقتصاد العراقي نحو حافة ضبابية لا تشبه أياً من أزماته السابقة، فيما تنشغل القوى السياسية في مفاوضات تشكيل حكومة جديدة يُتوقع أن تمتد أشهراً طويلة. في هذا الفراغ، تتكثف تحذيرات الخبراء من أن الأزمة المالية قد تسبق ولادة الحكومة، وأن البلاد تتحرك سريعاً نحو لحظة ارتطام مالي قد تكون الأولى من نوعها منذ عام 2003. الشرارة الأولى جاءت مع التصريح الذي فتح الباب لهذا النقاش: حديث المختص بالشأن المالي رشيد الساعدي لـ”بغداد اليوم”، الذي أكد فيه أن العراق قد يضطر إلى الاقتراض لتغطية الرواتب الشهرية البالغة أكثر من ثمانية تريليونات دينار، وهو رقم يكشف حجم الالتزامات التشغيلية التي تخنق المالية العامة وتدفعها إلى حافة العجز.
الساعدي أوضح أن الاعتماد على الإيرادات النفطية لم يعد كافياً لتغطية النفقات الجارية، خاصة مع تقلبات الأسواق العالمية وارتفاع فاتورة الدعم الاجتماعي. فالحكومة، كما يقول، تقف أمام التزامات لا يمكن التراجع عنها: رواتب، متقاعدين، شبكات حماية اجتماعية، دعم غذائي، ونفقات أمن وطاقة لا يمكن المساس بها، ما يجعل الاقتراض – إن لم يُدار بخطة إصلاحية – خياراً ذا كلفة سياسية واقتصادية عالية. وهنا تنفتح الصورة على واقع أشد تعقيداً، كشفته الساعات التالية.
فقد جاء قرار المحكمة الاتحادية ليضع البلاد أمام معادلة سياسية-مالية جديدة: انتهاء الدورة النيابية وتحويل الحكومة إلى تصريف أعمال يومية، بما يسلبها الدستوري من صلاحيات الاقتراض الداخلي والخارجي أو إبرام العقود الكبرى أو إطلاق الإنفاق الاستثماري. وبذلك، جرى كبح أهم أدوات الدولة في مواجهة العجز، في لحظة تتضخم فيها الالتزامات وتتآكل فيها هوامش المناورة. القرار لم يأتِ في سياق طبيعي، بل تزامن مع فراغ حكومي مرشح للتمدد، ومع نهاية سنة مالية بلا موازنة 2025، ما جعل قدرة الدولة على إدارة الملف المالي محصورة بقاعدة 1/12 التي تؤمّن الحد الأدنى من تشغيل المؤسسات دون أي قدرة على البناء أو التخطيط أو الاستثمار.
وفي خضم هذا الاضطراب المالي، برزت إشارة لافتة من داخل وزارة المالية نفسها حين طلبت وزيرة المالية حذف مخصصات وزارة التربية من أحد الجداول الدورية، مبرّرة ذلك بـ“عدم توفر التمويل”. لم يكن الطلب مجرد إجراء إداري، بل مؤشر إضافي على أن الأزمة تجاوزت حدود الموازنة والاستثمار، ووصلت إلى القطاعات الأساسية الأكثر حساسية في البنية الاجتماعية، بما فيها التعليم الذي عادة ما يُعامل كخط أحمر لا يُمسّ إلا في الظروف القاسية. هذه الواقعة أعادت تأكيد حقيقة أن المشكلة لم تعد مرتبطة بتأخر الموازنة فحسب، بل بعجز فعلي عن توفير الغطاء المالي للالتزامات الجارية، حتى قبل دخول البلاد في العام المالي الجديد.
من هنا ارتفع مستوى التحذيرات. الخبير نبيل المرسومي وصف ما يحدث بأنه انتقال للعراق إلى “منطقة الخطر”، محذراً من أول أزمة مالية قد تضرب الدولة إذا لم يتم إيجاد مخرج قانوني أو التعجيل بتشكيل حكومة تمتلك صلاحيات كاملة. المرسومي يشير إلى أن العراق لم يشهد منذ 2003 حالة مماثلة: التزامات ضخمة دون موازنة، وحكومة بلا قدرة على الاقتراض، ووزارات تعمل بميزانيات محدودة لا تكفي سوى لإبقاء الدولة على قيد التشغيل.
هذا الانسداد السياسي-المالي ترافق مع صورة أكثر قتامة كشفها الخبير منار العبيدي في بياناته الجديدة: حتى نهاية آب 2025 بلغت إيرادات العراق 82 تريليون دينار، منها 73 تريليون نفطية فقط، مقابل إنفاق عام بلغ 87.5 تريليون دينار، يضاف إليه 5 تريليونات دينار كسلف حكومية ستُحتسب ضمن المصروفات الفعلية. النتيجة: عجز فعلي يقارب 15 تريليون دينار، يُموَّل حالياً من خلال نزيف الاحتياطي النقدي. فقد اشترى البنك المركزي من وزارة المالية خلال تسعة أشهر 49 مليار دولار، بينما باع عبر نافذة العملة أكثر من 60 ملياراً، أي أن 11 مليار دولار جرى سحبها فعلياً من الاحتياطي لتلبية الطلب التجاري وتغطية فرق الإيراد-الإنفاق.
هذا النزيف جاء في وقت تسجّل فيه أسعار النفط نطاقاً منخفضاً بين 60 و65 دولاراً للبرميل، وهو سعر لا يغطي التزامات العراق التشغيلية. ومع استمرار قاعدة 1/12، يحذر العبيدي من أن المحافظات ستكون الخاسر الأكبر، فالمشاريع الاستثمارية ستتوقف فعلياً، وسيجري تجميد إطلاق التخصيصات، وستتراجع فرص العمل وتتعمق فجوة الخدمات والثقة بين المواطنين والدولة.
في الخلفية، تتفجر أزمة أخرى: تضارب بيانات الدين العام. فبينما أعلنت وزيرة المالية أن الدين الخارجي يبلغ 43 مليار دولار، نشر البنك المركزي رقماً مختلفاً تماماً: 54 ملياراً و957 مليون دولار حتى حزيران 2025. هذه الفجوة أثارت موجة تساؤلات دفعت المرسومي للمطالبة بـ”توضيح واعتذار”. لكن مستشار رئيس الوزراء، الخبير مظهر محمد صالح، قدّم تفسيراً مختلفاً حين قال لـ”بغداد اليوم” إن الديون الواجبة السداد فعلياً لا تتجاوز 13 مليار دولار، نصفها مؤجل بعد 2028، وأن باقي الديون – نحو 40 مليار دولار – تعود للنظام السابق وتوصف بأنها “ديون بغيضة” مجمّدة ولا تتحمل الحكومة الحالية مسؤولية سدادها.
صالح يصر على أن الدين الداخلي – البالغ 91 تريليون دينار – مُدار داخل الجهاز المصرفي الحكومي، وأن العراق لم يتخلف يوماً عن دفع التزاماته، وأن نسبة الدين إلى الناتج المحلي – 30% فقط – ما تزال ضمن الحدود الآمنة عالمياً. لكن هذا الخطاب الطمأني لا يلغي حقيقة أن ازدواجية أرقام الدولة نفسها خلقت فجوة ثقة، وأن التعارض بين المالية والبنك المركزي يعكس ارتباكاً مؤسسياً يحتاج إلى إصلاح بنيوي قبل أي حديث عن الاقتراض أو إعادة الهيكلة.
بعيداً عن لغة الجداول، يظهر أثر الأزمة في الشارع. فبحسب المرسومي، يعاني 36.8% من العراقيين – أي نحو 17 مليون شخص – من فقر متعدد الأبعاد يشمل التعليم والصحة والعمل ومستوى المعيشة، فيما يعيش 17.5% على فقر الدخل المباشر. هذه الأرقام تتقاطع مع تقارير أممية تقول إن الفقر في العراق أصبح “هيكلياً”، مرتبطاً بانهيار الخدمات وتراجع الاستثمار وتآكل قدرة الدولة على تطوير البنى التحتية، خاصة في الجنوب الذي يسجل نسب فقر مضاعفة مقارنة ببغداد وكردستان.
الخبير زياد الهاشمي يقدم من جانبه قراءة قاسية لأربع سنوات من الإدارة الاقتصادية، واصفاً الفترة بين 2022 و2025 بـ”سنوات الفرص الضائعة”. فالوفرة النفطية لم تُترجم إلى اقتصاد منتج، وجرى تدوير الأزمات بدلاً من تفكيكها، وتضخم الجهاز الإداري إلى أكثر من 6 ملايين موظف، فيما تجاوز اعتماد الموازنة على النفط 92%. ويشير الهاشمي إلى أن العراق يمتلك واحدة من أعلى نسب التوظيف الحكومي في المنطقة، بما يفوق 11% من السكان، مقارنة بـ5% في مصر و3% في السعودية، ما خلق بطالة مقنّعة تستهلك أكثر من 60% من الموازنة التشغيلية وتحرم الدولة من أي قدرة استثمارية.
ومع كل هذه المعطيات – عجز فعلي، نزيف احتياطيات، تضارب بيانات الدين، فقر متعدد الأبعاد، غياب موازنة، تباطؤ نمو، تضخم جهاز حكومي، وتآكل أدوات التمويل – يقترب العراق من لحظة حساسة قبل ولادة الحكومة الجديدة. لحظة تبدو فيها الأسئلة أكبر من الإجابات: هل تملك القوى السياسية الوقت لتصحيح المسار؟ أم أن الأزمة المالية ستسبق الحكومة، وتفرض على الجميع واقعاً أشد قسوة مما يتخيلون؟
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في بغداد اليوم
باللغة العربية لتسهيل قراءته. حدّد المحتوى باستخدام عناوين أو عناوين فرعية مناسبة (h1، h2، h3، h4، h5، h6) واجعله فريدًا. احذف العنوان. يجب أن يكون المقال فريدًا فقط، ولا أريد إضافة أي معلومات إضافية أو نص جاهز، مثل: “هذه المقالة عبارة عن إعادة صياغة”: أو “هذا المحتوى عبارة عن إعادة صياغة”:

