تحوّل خارطة النفوذ في الشرق الأوسط: صعود القوى الإقليمية
التغيير السريع في المشهد السياسي والأمني
تتبدل خرائط النفوذ في الشرق الأوسط بسرعة. لم يعد المشهد كما كان خلال العقدين الماضيين، حين كانت واشنطن وطهران تتحكمان بخيوط الملفات السياسية والأمنية في المنطقة. مع تراجع الوجود الأمريكي الميداني، واهتزاز النفوذ الإيراني تحت وطأة العقوبات والانهاك الاقتصادي، برزت قوى إقليمية جديدة تسعى إلى ملء الفراغ وإعادة تشكيل قواعد اللعبة: تركيا والدول العربية الكبرى.
تحول خارطة النفوذ الإقليمي
الخبير في العلاقات الدولية حسين الأسعد قال إنّ "الشرق الأوسط يشهد تحوّلاً واضحاً في خارطة النفوذ الإقليمي خلال السنوات المقبلة، مع تراجع تدريجي للدورين الأمريكي والإيراني في إدارة الملفات السياسية والأمنية، مقابل تقدّم ملموس لأدوار تركيا وعدد من الدول العربية التي أصبحت عناصر فاعلة في صياغة التفاهمات المستقبلية".
تغيير استراتيجية واشنطن
ويضيف الأسعد أن واشنطن "باتت تعتمد على سياسة الانخراط الانتقائي بدلاً من الانخراط الميداني المباشر في أزمات المنطقة"، مشيراً إلى أن "التحوّل نحو آسيا وملفات الاقتصاد والأمن الداخلي جعل الشرق الأوسط أولوية ثانوية في أجندة الإدارة الأمريكية". وفي المقابل، تواجه طهران "تحديات اقتصادية متراكمة وعقوبات دولية تقلص من قدرتها على إدارة وكلائها في الإقليم، فضلاً عن تراجع قبول أدوات نفوذها التقليدية في عدد من الساحات العربية".
صعود تركيا كقوة إقليمية
يرى الأسعد أن تركيا "تتقدّم اليوم كقوة إقليمية محورية، عبر تعزيز حضورها في ملفات الطاقة والممرات التجارية والاستثمارات الدفاعية، مستفيدة من موقعها الجغرافي الحيوي وتوسّع شراكاتها مع الدول العربية"، لافتاً إلى أن أنقرة باتت رقماً صعباً في معادلة التوازن الجديدة، بعدما تحوّلت من لاعب حدودي إلى محور اقتصادي-أمني يمتد من البحر الأسود إلى الخليج.
تحالفات مرنة لتركيا
هذا الصعود التركي لم يأتِ فقط عبر القوة الصلبة، بل من خلال اقتصاد متنوع وتحالفات مرنة تسمح لأنقرة بالتحرك بين واشنطن وموسكو وطهران من دون أن تخسر أياً منها، وهو ما يراه محللون استراتيجية متوازنة تمكّنها من التمدد دون الاصطدام المباشر مع القوى التقليدية.
دور الدول العربية في التحول
وفي موازاة هذا التحول، يؤكد الأسعد أن "الدول العربية، وفي مقدمتها السعودية والإمارات وقطر ومصر، أصبحت تمتلك قوة اقتصادية ودبلوماسية متنامية تسمح لها بقيادة مشاريع إقليمية كبرى ذات طابع تنموي واستثماري، مع اعتماد مقاربات أكثر استقلالية في قضايا الأمن الإقليمي وأمن الطاقة والممرات البحرية".
نظام تنموي-سياسي جديد
فمن خلال مشاريع البنية التحتية العابرة للحدود، والاستثمارات المشتركة في الطاقة المتجددة والنقل البحري، تتقدّم العواصم العربية لتشكيل نظام تنموي-سياسي جديد يتجاوز الانقسامات الأيديولوجية القديمة، ويستند إلى المصالح الاقتصادية والتكامل الإقليمي.
الحلول الإقليمية للأزمات
يخلص الأسعد إلى أن "المرحلة المقبلة ستعتمد أكثر على الحلول الإقليمية للأزمات السياسية والأمنية، بدلاً من الارتهان للتدخلات الدولية، فالدبلوماسية العربية باتت حاضرة بفاعلية في ملفات التهدئة والتفاوض، كما في جهود إعادة الإعمار وفتح آفاق التعاون الاقتصادي".
نظام دولي لامركزي
ويضيف أن "النظام الدولي يتجه نحو مزيد من اللامركزية وتعدد الأقطاب، الأمر الذي يمنح الدول الإقليمية مساحة أكبر للتأثير وصناعة قراراتها"، مشيراً إلى أن "السنوات المقبلة ستشهد ولادة تحالفات جديدة وفرص اقتصادية غير مسبوقة، ستعيد رسم مشهد الشرق الأوسط بعيداً عن الاحتكار التقليدي للقوى الكبرى".
مستقبل الشرق الأوسط
يرى باحثون في الشؤون الجيوسياسية أن المشهد الإقليمي الحالي يمثل بداية مرحلة إعادة توزيع القوة، لا نهايتها. فبينما تحاول واشنطن الحفاظ على نفوذها عبر التحالفات الأمنية، تسعى طهران إلى تثبيت وجودها في ظل العقوبات، في حين تبني أنقرة والعواصم العربية مساراً جديداً قوامه الاقتصاد والدبلوماسية لا الأيديولوجيا.
نظام متعدد المراكز
وما بين هذه المسارات، يبدو الشرق الأوسط متجهاً نحو نظام متعدد المراكز، تتراجع فيه فكرة المحاور المغلقة لتحل محلها شبكات مصالح مفتوحة، يكون فيها العراق أحد أهم ساحات التوازن المقبلة.

