الأزمة التعليمية في العراق: حلقة مفتوحة من التآكل البنيوي
التغلغل السياسي داخل الجامعات
تقرير الإيكونوميست الأخير أثار جدلاً واسعاً حول مصير التعليم في العراق، حيث تحدث عن اختراق الجهات المسلحة للحرم الجامعي. بينما اعتبره البعض تقريراً مسيساً، إلا أن وقائعه وجدت صدى في الداخل، حيث يعترف الأساتذة بأن الجامعة فقدت جزءاً من استقلالها. النشاط الطلابي والنقابي تحول في بعض الأحيان إلى امتداد سياسي، مما أفقد التعليم هدفه وحول الجامعة إلى مساحة تنافس لا تختلف عن البرلمان.
المنح الدراسية الخارجية: هدر مالي وعدم منطقية
إعلان وزارة التعليم العالي تخصيص أكثر من 16 ألف مقعد دراسي مجاني في الخارج أثار غضب الطلبة وأولياء الأمور، حيث وصف القرار بأنه غير منطقي ومخالف للمعايير الاقتصادية. العراق يعاني من ديون تتجاوز 170 تريليون دينار داخلياً وخارجياً، بينما تخصص دول متقدمة أعداداً أقل بكثير من المنح رغم اقتصادها المستقر. Economيون يؤكدون أن هذه السياسة تمثل نموذجاً للهدر غير المنتج، حيث تُنفق المليارات على تعليم خارجي بلا خطة واضحة للعودة أو للاستثمار في الداخل.
تراجع التصنيفات العالمية
الأرقام الدولية تكشف حجم الانحدار، حيث لم تدخل أي جامعة عراقية ضمن قائمة أفضل 1000 جامعة في العالم وفق تصنيف QS 2026. تصنيف Times Higher Education (THE) أظهر خروج العراق تماماً من المؤشر العربي، وتصنيف ARWU (شنغهاي) لم يسجل أي حضور للجامعات العراقية في أعلى 1500 مؤسسة أكاديمية. هذه الأرقام تعكس أزمة بنيوية، حيث لم تعد الجامعات العراقية تنتج بحثاً مؤثراً، بل أصبحت تنتج خريجين بلا أفق.
هجرة الكفاءات
تراجع البيئة الأكاديمية دفع آلاف الأساتذة والباحثين إلى مغادرة العراق خلال العقد الأخير. أكثر من 32 ألف أكاديمي وباحث غادروا البلاد بين عامي 2014 و2025، وهو أعلى معدل هجرة منذ التسعينات. الأسباب متشابكة: ضعف التمويل البحثي، التهديدات الأمنية، غياب العدالة في التعيين، وانعدام البيئة العلمية المحفزة. النزيف الأكاديمي يُعد أخطر من هجرة رؤوس الأموال، لأنه يفرغ المجتمع من قدرته على النهوض ويجعل إعادة بناء الدولة أكثر صعوبة.
تجارة الشهادات المزورة
تفاقمت فضيحة الشهادات المزورة التي تُباع في الخارج، خصوصاً في لبنان وبعض دول الجوار، مقابل مبالغ تتراوح بين 3000 و5000 دولار. هذه الظاهرة نسفت ما تبقى من قيمة العلم، وجعل الحصول على شهادة جامعية مسألة مالية لا معرفية. السوق الأكاديمي أصبح مزدحماً بـ"حَمَلة شهادات" بلا كفاءة، فيما تُهمّش الكفاءات الحقيقية.
الأزمة التعليمية: حلقة مفتوحة
الأزمة التعليمية في العراق تبدو كحلقة مغلقة لا يعرف المرء من أين تبدأ ولا إلى أين تنتهي. التغلغل السياسي، الهدر المالي، تراجع التصنيفات العالمية، هجرة الكفاءات، وتجارة الشهادات المزورة، كلها تشكل معاً نسيجاً متشابكاً من التآكل البنيوي الذي أصاب المؤسسة التعليمية في صميمها. الجامعة العراقية، التي كانت يوماً مفخرة للمنطقة، تحولت إلى مرآة تعكس حال الدولة نفسها. حين يُدار التعليم بمنطق المحاصصة ويُختزل في النفوذ، يصبح البحث العلمي واجهة شكلية، وتتحول المنح إلى وسيلة ترويج سياسي، وتغدو الشهادة سلعة تُشترى وتُباع في أسواق النفوذ. عندها لا يكون فشل التعليم مجرد إخفاق إداري، بل إعلاناً لانهيار المعايير التي تُبنى عليها الدولة الحديثة.

