دين مهدد بالجفاف
كانت مياه الشط الملوثة كفيلة بتأجيل مراسم زواج شقيقتي ثلاث مرات. لكن والدتي أصرت على إتمام الطقس والتخلص من هذا الفأل النحس. في المحاولة الرابعة خرجت من الماء وهي تمسك معدتها وتغطي وجهها وتترنح، تقيأت ثم طالبت بإكمال الزواج. كانت رائحة المياه تشبه الجيفة، تقف العروس مع زوجها أمام شط الطويسة في البصرة جنوب العراق وهي ترتدي الرستة (لباس ديني أبيض في إشارة إلى طهارة الروح من الآثام) لممارسة التعميد، وهو طقس ديني لأبناء الصابئة يتمثل في الغطس بكامل الجسد في النهر، ويتوسطهما الكنزورا (اسم يطلق على رجل الدين)، ثم ينزلون جميعاً في الماء ويكملون التعميد. عدنا إلى البيت مثقلين بالأسئلة. كيف يحصل كل هذا بحق إحدى أقدم الديانات في بلاد الرافدين؟
صلاة بالماء المدنس
ثلاث غطسات، ثم ثلاث رشفات من المياه الجارية تقدم من يد رجل الدين. هذه الخطوات الدينية، التي لا يكتمل الزواج من دونها، صارت ثقيلة وبالغة الثمن. تقول رحمة شقيقة العروس إن "الجميع محبط، تتآكل طقوسهم أمام أعينهم كابتلاع الجفاف لمياه يقوم على وجودها دين كامل في العراق. فلم تكتف فداحة الجفاف ونتائجه بتدمير الحياة الزراعية والبيئية داخل البلاد، بل امتدت لديننا، ولا يعرف أبناه اليوم ماذا يفعلون أمام إعصار الجفاف والتلوث".
الأزمة تقتل الجميع
على ضفاف دجلة والفرات وشط العرب تشكلت الديانة المندائية منذ ما يقارب ألفي عام، واعتمدت الجرف طريقاً ومعبداً لممارساتها الدينية التي تقام وجوباً على ماء حي مرئي مسموع يجري أمام العين، ماء يغترف ويلامس ويشهد عليه، وأن يكون طاهراً ليطهر الأجساد المتجهة إليه. اليوم، بحسب رحمة وآخرين، يمر المندائيون بأصعب مواسمهم الطقسية في الذاكرة القريبة، فالأزمة البيئة قد تصنع موجات هجرة إجبارية أقسى من تلك التي صنعتها الحروب. صار الناس يبحثون وينقبون عن جرف أنظف من غيره، بعضهم بدأ يعمد تحت الجسر الإيطالي بدلاً من نهر الطويسة، بعد تجارب سيئة كثيرة مروا بها أثناء التعميد.
رحلة إلى الشتات
70 في المئة من مياه الصرف الصحي بالعراق تذهب مباشرة إلى الأنهار. قبل أن يبدأ الصراع مع هبوط مناسيب المياه وزيادة الملوحة وتسرب الأوساخ قرب المجرى، كانت المياه التي يطل عليها المعبد المندائي في محافظتها، حيث يسكن ما يقارب ألفي شخص من أتباع الطائفة المندائية، نظيفاً وصالحاً للشرب. "كنا نتبرك بنعمة الرب من المياه ونشرب من خير الأرض الجاري، واليوم يجتمع عدد قليل – بعد هجرة الغالبية – محاولاً حفظ هويته الدينية بتحمل رؤية طقوس مقدسة تقام بين الطحالب والقناني البلاستيكية. نرى أقوامنا وهم يتهاوون بسبب الإهمال وتطردهم أرضهم شيئاً فشيئاً من دون أدنى محاولة إنقاذ"، تقول رحمة.
رئيس مجلس أعيان الصابئة المندائية غانم هاشم، ذكر ضمن تصريح سابق وجود ما يقارب 50 ألف صابئي موزعين على مدن مختلفة من العراق. استطاعت الحرب وما تلتها من أزمات عاصفة إحداث تغيير ديموغرافي ممتد ومتنوع الأسباب، كان الجفاف آخرها، بعدما كان عددهم أكثر من ربع مليون شخص في البلاد.
التهديد بالاندثار
تصريح آخر لرئيس الطائفة في العالم الشيخ ستار جبار، يفيد بأن عدد الموجودين حالياً لا يتعدى الـ10 آلاف. وتتفاوت الإحصاءات بسبب انعدام مصادر التوثيق، لكن هذه الفجوة تؤكد تهديد الهجرة باحتمال جفاف هذا الدين داخل البلاد.
حذر تقرير للبنك الدولي صدر عام 2022 حول أزمة المياه في العراق، من أن استمرار سوء إدارة الأهوار قد يؤدي إلى نزوح ما لا يقل عن 40 ألف شخص بحلول عام 2030، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات خطرة على استقرار المنطقة. والآن، تبلغ مساحة المياه المغمورة في عموم أهوار العراق أقل من 4254 كيلومتراً مربعاً، بعدما كانت تغطي أكثر من 20 ألف كيلومتر مربع، بحسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء.
ليس في العراق سوى خمسة معابد "مندى" تغطي طقوس المندائيين وتسير علاقة أجسادهم وأرواحهم بالماء، الأول في بغداد والبقية موزعة في محافظات الجنوب/ البصرة، العمارة وذي قار، والديوانية. تقصلت – كما النهر – عدد المعابد بعدما كانت حتى عهد الساسانيين أكثر من 400 معبد في كل العراق.
التلوث يهدد الحياة
تأثيرات المناخ لم تمس صلاة الصابئة المندائية وحدها، فالتداعيات الخطرة انتقلت إلى تدمير بعض قرى ومناطق الأهوار بعد جفافها. تلك المدن التي انتشرت فيها سابقاً مجاميع هائلة من المندائيين عملوا بالزراعة، وما زال بعضهم إلى اليوم يربي الجاموس ويصيد السمك. أيضاً وبصورة إجبارية اضطر آلاف منهم للهجرة نحو مدن أخرى بحثاً عن العمل والمياه والصلاة. "كل شيء سحب من حياة المندائيين بعد جفاف المياه، إننا وديننا نقوم عليه"، يقول رام.
في ناحية المشرح – ميسان جنوب العراق، كان حي الميثاق وشارع الصابئة يضمان خلال الثمانينيات والتسعينيات أكثر من 400 بيت. واليوم ثمة ثلاث عائلات فقط يتعايشون بسلام مع جيرانهم المسلمين، غير أن ما تبقى من التراث المندائي هو المقبرة القديمة في المشرح، هذا الأثر وحده يشهد على حضور تلك الأقوام يوماً قبل أن يحل الجفاف. ويقول الناشط المندائي أحمد لورانس "هذا أخطر تهديد لشعائرنا، نضطر إلى الانتقال مثقلين بالأسئلة إلى مركز مدينة العمارة لإقامة الطقوس في مواعيدها الثابتة، فتتكاثر الأجور والمصاريف والمواد. مياه نهر المشرح كانت أنقى المياه وأقربها لجريان طقوسنا، لكنه جف تماماً اليوم. وبعض المسؤولين من أبناء طائفتنا انشغلوا بمصالحهم الخاصة وتركوا الناس لحيرتهم.
حماية دستورية
90 في المئة من المندائيين غادروا العراق بعد عام 2003، أي إن مجتمعهم على حافة زوال محلي ما لم تتخذ إجراءات حماية فعالة. وتبين الباحثة أن مدن العراق تقوم على تنوع سكانها الديني والقومي، مع هذا فإن لغة الصابئة وثقافتهم وديانتهم مهددة بالاندثار مع تشتت المجتمع عالمياً بسبب انعدام الحماية.
"نعيش على الكفة المتأرجحة اليوم، ومن المؤسف قول ذلك، إننا قد نضطر لترك بلادنا وأرض أجدادنا يوماً إن لم يتم الانتباه إلينا"، يقول رام أسعد.

