تعقب الناشطين العراقيين: آليات رسمية وتقنيات متقدمة
مقدمة
في الأشهر الأخيرة، اختفى عدد من الناشطين العراقيين عن المشهد الرقمي أو اضطروا إلى إغلاق حساباتهم أو نشر "اعتذارات" منسوبة لهم. ما بدا في البداية موجة تضييق متفرقة، ظهر لاحقاً كجزء من آلية منظمة تتبنى تقنيات سيبرانية وتقارير رسمية لاقتفاء أثر أصحاب الرأي.
آليات التعقب
بحسب الصحفي الاستقصائي عثمان المختار، فإن الأطراف المسلحة باتت تملك قدرة متزايدة على الوصول إلى بيانات المستخدمين وتعقبهم، عبر قنوات رسمية وتقنية متطورة. هناك طريقتان رئيسيتان اعتمدتا بكثافة في تعقب الهوية والموقع:
- قنوات رسمية: إرسال طلبات استناداً إلى قرارات قضائية أو مزاعم أمنية إلى شركات التواصل الكبرى مثل ميتا وإكس. هذه الشركات قد تسليم سجلات الاتصال (IP) وأرقام الهواتف والبريد المسجل، ما يجعل التعقب مباشراً وفعالاً.
- أدوات تقنية متقدمة: داخل أطر سيبرانية تسمح باستخراج بيانات من الصور والفيديوهات المنشورة (بيانات EXIF/GPS) أو عبر تحليل العناصر المرئية داخل الصورة.
أمثلة على التعقب التقني
مثال عملي أورده المختار: صورة نُشرت على حساب سياسي قدّمت دلائل تقنية أثبتت أنها التقطت في كركوك عام 2018 بكاميرا من نوع NIKON D7200، ما يعكس قدرة الفرق التقنية على ربط الصورة بمكان وزمن التقاطها حتى لو مضى عليها سنوات. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم روابط معدّة خصيصاً لالتقاط موقع الضحية بدقة مترية عندما ينقر المستخدم عليها.
اختراقات مؤسسية
المختار يشير أيضاً إلى اختراقات أو اختراقات شبه رسمية وصلت إلى مفاصل مؤسسات الاتصالات: من وزارة الاتصالات مروراً بهيئة الإعلام والاتصالات ووصولاً إلى مزودي خدمة الإنترنت المحليين. النتيجة أن عملية التتبع ليست بالضرورة خارجة عن الإطار المؤسسي، بل قد تتم أحياناً عبر قنوات رسمية أو مكاتب محلية تتعاون مع فرق تقنية متقدمة.
تدريبات تقنية خارجية
تدريبات خارج البلاد لعبت دورها؛ المختار يذكر دور دورات أقيمت في موسكو منذ فبراير 2023، شارك فيها عناصر قيّمة، ما تسبّب بارتفاع مستوى الأداء التقني لدى تلك الأطراف، لا سيما في مجالات الاختراق وتحليل البيانات الرقمية.
النتائج المباشرة
النتيجة المباشرة: الحسابات تُغلق تلقائياً، أو تُجبر أصحابها على نشر اعتذارات مكتوبة وضاغطة، أو يختفون عن ساحة التواصل لأشهر. هذا الضغط خلق بيئة من الخوف الذاتي والرقابة الذاتية، حيث يختار كثيرون الصمت بدلاً من مواجهة تعقيدات التتبع وخطر الظهور أمام جهات تملك قدرة على الملاحقة القضائية أو الأمنية.
تأثير على البنية السوسيوسياسية
هذا الواقع لا يؤثر على الأفراد فقط، بل يعيد تشكيل البنية السوسيوسياسية للمجال العام: منصات النقاش تتحول إلى ساحات خاضعة للرقابة، والمعلومة المغايرة لصالح تيارات محددة تقلّ وضوحها أو تختفي تماماً.
إجراءات حماية
لمن لديهم حضور رقمي نقدي أو معارض، يوصي المختار باتباع إجراءات بسيطة لكنها فعالة لتقليل مخاطر التعقب:
- لا تربط حساباتك السياسية برقم هاتفك الشخصي أو ببريدك الإلكتروني الأساسي.
- تفادَ التفاعل مع روابط مجهولة أو غير متوقعة.
- احذف بيانات EXIF من الصور قبل نشرها.
- استخدم خدمات VPN ثابتة وموثوقة عند الدخول إلى حسابات تحمل مواقف سياسية.
- لا تُشارك معلومات شخصية أو مكانية في منشوراتك أو إعدادات الملف الشخصي.
- تجنّب استخدام واتساب لنشاط سياسي حساس.
الحلول الشاملة
التدخل التقني وحده لا يكفي. المختار يربط الظاهرة بعجز مؤسسي في حماية الفضاء الرقمي وغياب آليات شفافة للمساءلة عن سوء استخدام صلاحيات الوصول إلى بيانات المستخدمين. المطلوب ثلاثي:
- تشريع ملزم يقيّد وصول الجهات الأمنية أو غيرها إلى بيانات منصات التواصل إلا بمقتضى أوامر قضائية شفافة وخاضعة لمراجعة برلمانية أو قضائية مستقلة.
- تعزيز استقلال هيئة الاتصالات والجهات الرقابية، وتأمين بنيتها التقنية ضد الاختراقات أو سوء الاستخدام الداخلي.
- تعاون دولي مع مزودي خدمات الإنترنت وشركات التواصل لوضع آليات واضحة لحماية المستخدمين من الطلبات الحكومية غير المبررة.
الخلاصة
يرى مراقبون، أن التقنيات التي كانت تتيح توثيق الانتهاكات وتحقيق المساءلة أصبحت الآن أداة مضادة تهدّد حرية التعبير. ما كشفه عثمان المختار ليس فصيلاً تقنياً بحتاً، بل مؤشراً لانتقال الخنق السياسي من الشارع إلى الفضاء الرقمي. حماية الحيز العام الرقمي في العراق تتطلب إجراءات تقنية وقانونية وسياسية متزامنة. وإلا فإن الفضاء العام سيبقى محكوماً بخوفٍ مقنّن، لا بفضاءٍ حرّ قادر على احتضان خطابٍ مختلف وفعال.

