تلوث الهواء في بغداد: أزمة خانقة تهدد الصحة العامة
التلوث اليومي: غلاف من السموم
لا يعد ما يخيم فوق بغداد مجرد غبار موسمي، بل غلاف من السموم اليومية التي تتكاثف بين عوادم السيارات ودخان المولدات وروائح الكبريت المنبعثة من المعامل والحقول النفطية. المدينة التي وُلدت على ضفاف الماء باتت اليوم تتنفس هواءً يرهق صدور سكانها العشرة ملايين، وتتصدر مؤشرات التلوث في العالم وفق بيانات منصة IQ Air.
أسباب التلوث: تراكم ثلاثي الأبعاد
يؤكد مرصد العراق الأخضر أن تلوث أجواء العاصمة لم يعد طارئًا بل نتيجة تراكم ثلاثيّ الأبعاد: معامل طابوق وأسفلت تعمل بلا ترخيص بيئي وتستخدم وقودًا رديئًا، وعمليات حرقٍ متواصلة للنفايات داخل الأحياء ومن حولها، وظروف جوية ساكنة تُبقي الملوثات عالقة فوق رؤوس الناس.
التحذيرات البيئية: بيانات متكررة
وبينما يكتفي بعض المسؤولين بنصيحة “غلق الشبابيك ولبس الكمامات”، تتفاقم معدلات التلوث حتى صارت بغداد “المدينة الأولى عالميًا” في مؤشرات التلوث المتحركة، بحسب المرصد.
غياب المحاسبة الفعلية
ويضيف التقرير أن غياب المحاسبة الفعلية للأنشطة الصناعية العشوائية يجعل كل مبادرة بيئية شكلية. فالمعامل المخالفة ما زالت تعمل، والمكبات العشوائية تحترق دون رقابة، فيما لم تُفعّل بعد أي منظومة للرصد الفوري لجودة الهواء.
رائحة الكبريت: مزيج من الغازات السامة
تتجدد رائحة الكبريت في سماء العاصمة بين فترة وأخرى، وهي في حقيقتها مزيج من عشرين نوعًا من الغازات السامة، بعضها يؤثر في الجهاز العصبي مباشرة. ويقول مختصون في المرصد إن هذه الرائحة تنبعث أساسًا من معامل الإسفلت والوقود الثقيل ومحطات الكهرباء القديمة، إضافة إلى مطامر النفايات التي تتفاعل حراريًا وتطلق غازات الكبريت والهيدروجين.
التلوث البيئي: ملف اقتصادي
اقتصاديا، يرى مستشار رئيس الوزراء مظهر محمد صالح أن التلوث البيئي لم يعد ملفًا بيئيًا فقط بل اقتصاديًا أيضًا، موضحًا أن “البيئة النظيفة هي استثمار طويل الأمد في صحة المجتمع واقتصاده، وكل دولار يُنفق على الهواء النظيف يوفر أضعافه في كلفة العلاج والإنتاجية المهدورة”.
الحلول: استراتيجية اقتصادية خضراء
ويؤكد صالح أن “العراق بحاجة إلى استراتيجية اقتصادية خضراء تشمل إطلاق قروض منخفضة الفائدة لاستبدال المركبات القديمة، ودعم مشاريع النقل الكهربائي والطاقة المتجددة، باعتبارها ركيزة للاستدامة البيئية والنمو الاقتصادي معًا”.
التلوث والصحة: أثر مباشر
تشير تقارير وزارة الصحة إلى أن مستويات الجسيمات الدقيقة في بغداد تتجاوز الحدود الآمنة بأكثر من عشرة أضعاف، وأن أمراض الربو والتهاب القصبات المزمنة ارتفعت بنسبة 30% خلال السنوات الأخيرة. كما يقدّر معهد التخطيط الحضري الخسائر الاقتصادية الناتجة عن تلوث الهواء بنحو أربعة مليارات دولار سنويًا بسبب الأعباء الصحية وتراجع الإنتاجية.
التربية البيئية: سلوك جماعي
علم الاجتماع يرى أن الأزمة لا تُختصر بالسياسات فقط، بل بثقافة عامة تتسامح مع التلوث. فالمجتمع الذي لا يرى في دخان المولدات أو حرق النفايات جريمة، لن يقف ضده. ولهذا يدعو الأكاديميون إلى إدماج التربية البيئية في المناهج المدرسية وتحويلها إلى سلوك جماعي دائم.
الخلاصة: خطة وطنية شاملة
بغداد اليوم لا تحتاج إلى بيانات موسمية أو لجان طوارئ، بل إلى خطة وطنية شاملة تتعامل مع البيئة كقضية أمنٍ وصحة واقتصاد. فكل دقيقة من التأخير في مواجهة هذا التلوث، تُكلّف المدينة نسمة هواء نظيفة… وحياة أخرى تضيق صدرها في انتظار الشهيق.

