لا يختلف اثنان، عرباً أو مسلمين أو من المتعاطفين بحق مع حقوق الشعب الفلسطيني، على أن القضية الفلسطينية تمر الآن بأصعب مراحلها، أو بالأحرى أصعب لحظاتها. لا يتوقف الأمر عند حدود تثبيت وقف الحرب في قطاع غزة، وهو الأمر الذي يستقطب الاهتمام الأبرز عربياً وأميركياً، بل يمتد إلى ضمان بقاء الضفة الغربية المحتلة في حدود يونيو (حزيران) 1967 أساساً للدولة الفلسطينية متضمنة كامل قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي التام وبلا رجعة. وعلى هذا النحو تتطلب هذه اللحظة سلوكاً فلسطينياً جامعاً، ينهي الانقسام السياسي، ويراجع الذات، ويُفعّل منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني في الداخل المحتل وفي الشتات العالمي؛ ففي ذلك التفعيل بقاء للهوية الفلسطينية، التي تتعرض لضغوط هائلة من قِبل إسرائيل وداعميها من أجل القضاء عليها مادياً ومعنوياً.
المخاطر التي تتضمنها اللحظة الجارية عديدة وفي اتجاهات عدة، فمستقبل غزة مرهون بتطبيق خطة الرئيس ترمب، وهي بدورها وإن ركزت على وقف الحرب كما أعلن الرئيس ترمب ذلك مراراً، فإن غموض بعض بنودها، أو لنقُل عدم الوضوح الكافي بماهية تلك البنود وأسلوب تنفيذها، كنزع سلاح «حماس» ومهام وطبيعة القوة الدولية المزمع نشرها في القطاع، ودور مجلس السلام الذي سوف يترأسه الرئيس ترمب نفسه؛ ما يفرض على كل القوى الفلسطينية المدنية وغير المدنية الاستعداد لمرحلة جديدة قد تطول إلى سنوات عدة، يرافق ذلك عدم وضوح الصلة بين مستقبل غزة تحت إشراف دولي غير واضح المعالم بعد، وبين دور السلطة الوطنية الفلسطينية، التي تبدو في حالة نضال سياسي مكثف من أجل تثبيت دور عملي لها، في غزة الجديدة محل التشكيل، سواء المهام الأمنية أو عمليات الإعمار أو العلاقة مع اللجنة الإدارية، أياً كان تشكيلها من أبناء القطاع أم من الكوادر الفلسطينية بغض النظر عن أصلها الجغرافي، وهي اللجنة التي ستُكلف مهام إدارة الشؤون اليومية للقطاع لفترة غير محددة، قد تستمر عاماً أو أعواماً عدة.
هذه الإشكاليات مجرد عينة لما تعانيه القضية الفلسطينية، وإذا أضفنا الوضع العام الذي تمر به السلطة الفلسطينية من ضعف سياسي وغياب العناصر الشابة، واحتياج اقتصادي شديد، وغياب الإصلاحات التي أعُلن عنها مراراً في الأعوام الخمسة الأخيرة، وعدم وضوح آليات انتقال السلطة، والذي يُعدّ الإعلان الدستوري المفاجئ الذي أعلنه الرئيس محمود عباس والخاص بنقل السلطة إلى نائبه حسين الشيخ حال حدوث أي فراغ في مهام الرئيس، بمثابة خطوة استباقية لأمور غير محسوبة، ومنع الفراغ الدستوري حال حدوثها. ما يجعل النقاش والحوار الفلسطيني العام بين كل الفرقاء والفصائل لبحث تلك الإشكاليات العملية والسياسية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، والانتهاء إلى رؤية موحدة، أمراً لا غنى عنه. وفي المقابل، فإن تجاهل البعض من القوى الفلسطينية مبدأ الحوار الشامل، والاستعلاء على قوى فلسطينية أخرى، والتعامل معها من منظور الاختلاف الآيديولوجي، وتجاهل طبيعة التحديات الراهنة، يمثل أسلوباً غير رشيد لا سياسياً ولا استراتيجياً.
واستطراداً، فإن التعالي على المشاركة في أي جهد للحوار الفلسطيني الشامل، يعدّ أمراً مخيباً للآمال. فغياب حركة «فتح» عن حوار الفصائل الفلسطينية الذي عُقد قبل أربعة أيام في القاهرة، ونتج منه اجتهاد سياسي لمجموعة من الفصائل الفلسطينية متعددة الاتجاهات السياسية ومتباينة في حجم الحضور والتأثير على الأرض، يخص ترتيبات المرحلة الثانية الواردة في خطة الرئيس ترمب، والتي قبلتها «حماس» و«الجهاد» والحركة الشعبية، وباركتها السلطة الوطنية الفلسطينية باعتبارها تنهي الحرب، وتراعي المعاناة الرهيبة التي عاشها الفلسطينيون في القطاع المنكوب، كان يستوجب الحضور والمشاركة من الجميع بلا استثناء.
والحق أنني لا أفهم مبررات غياب حركة «فتح» عن هذا اللقاء، وهي التي أصدرت لاحقاً بياناً عبرت فيه عن تحفظها ورفضها مضمون بيان الفصائل، واعتبرته بمثابة محاولة للقفز عن الشرعية الوطنية لن يكتب لها النجاح، ويقبل بأمور «تضر بشرعية السلطة الفلسطينية، وبوصاية دولية، وأن دور لجنة السلام الدولية هو للرقابة والتدقيق في إطار زمني محدد، ولضمان التزام الجميع بوقف الحرب، والإشراف على إعادة الإعمار وتنفيذ الخطة، من دون أي مساس بالقرار الوطني المستقل أو ولاية مؤسسات دولة فلسطين».
ومن اليسير ملاحظة أن بيان «فتح» يخلط بين اللجنة الإدارية التي ستكلف مهام إدارة القطاع لمدة محددة، وبين دور مجلس السلام برئاسة الرئيس ترمب، وهو دور إشرافي ورقابي بالأساس وليس تنفيذياً. كما أن مناداة «فتح» كما ورد في بيانها بالحوار والالتزام بالثوابت الوطنية والشرعية الفلسطينية والرؤية الفلسطينية الجامعة يُعد حجة عليها؛ فالفرصة كانت قائمة ولكنها لم تستجب، وكان لها أن تدفع الحوار إلى ما تراه يصب في المصلحة الوطنية الجامعة والالتزام بالشرعية كما تراها.
صحيح أن لقاءً تم بين حسين الشيخ وخليل الحية رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» بصورة ثنائية. وحسب المصادر الفلسطينية، اتفق الطرفان على تفاهمات محددة وإيجابية تخص المرحلة الثانية، ولكن قيل إن حسين الشيخ لم يكن ممثلاً لحركة «فتح» أو منظمة التحرير الفلسطينية، وهو نائب في كليهما، بل ممثلاً عن السلطة الوطنية الفلسطينية، ورئيسها أبو مازن، وبمشاركة ماجد فرج رئيس المخابرات الفلسطينية؛ تأكيداً للطابع الرسمي المؤسسي. وكأن حركة «فتح» تتحرك على مساريْن؛ أحدهما حوار غير مباشر وثنائي تحت غطاء السلطة الوطنية، وفي الآن نفسه تتمسك بموقف خاص تتحفظ من خلاله على نقاط هنا ونقاط هناك. وفي ظني أن مثل هذه الازدواجية في المواقف لا تناسب اللحظة الصعبة والخطيرة التي تمر بها القضية الفلسطينية، فمن شأنها أن تثير الالتباس حول النهج الفلسطيني لعبور تلك المرحلة بأقل الخسائر الممكنة، وأفضل المكاسب الممكنة إن وجدت.

