الحرب الرقمية في العراق: بين حماية الأمن وحرية التعبير
مقدمة
في بلد أنهكته المعارك لعقود، تتبدل الجبهات لكن تبقى الحرب مستمرة. بعد مواجهة الإرهاب في الميدان، يجد العراق نفسه اليوم في مواجهة مختلفة، تدور رحاها على المنصات لا في المدن. إنها حرب رقمية جديدة، تتقاطع فيها حسابات الأمن مع حدود الحرية، وتتصادم فيها إجراءات “حماية الدولة” مع حق المواطنين في التعبير.
الذراع الإلكترونية
عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، النائب ياسر إسكندر، يكشف أن التنظيمات المتطرفة استغلت الفضاء الإلكتروني منذ سنوات طويلة في محاولات لخلق ما يعرف بالتجنيد الإلكتروني للشباب والتغرير بهم. الأجهزة الأمنية تمتلك أذرعاً فنية متخصصة ونشطة تعمل على محاربة تلك الحسابات ضمن مسارات تقنية وقانونية تهدف إلى إنهاء تأثيرها.
تضييق على حرية التعبير
然而، هذا التصعيد في اللغة الأمنية ترافق مع سلسلة حملات رقمية مثيرة للجدل قادتها جهات أمنية وحكومية، بذريعة مكافحة التطرف، لكنها امتدت لتشمل حسابات صحفيين وناشطين ومنصات إعلامية مستقلة. السياسي المستقل طلال الجبوري يتحدث عن وجه آخر للصورة، قائلاً إن الحكومة شرعت في اتباع سياسة تضييق ممنهجة تجاه المنصات الإعلامية والأصوات الناقدة لأدائها.
حملات رقمية وجيوش وهمية
مركز التحقق العربي كشف عن نشاط واسع لـ“جيوش رقمية” تعمل بشكل منظم لتضخيم وسوم محددة، وُصفت بأنها حسابات وهمية مرتبطة بجهات سياسية وأمنية تسعى إلى ترويج سرديات معينة. استخبارات الحشد الشعبي نفذت حملة لاختراق أو إغلاق حسابات لا ترتبط بها مباشرة، متهمة أصحابها بـ“الترويج للطائفية أو البعث”.
تراجع حرية الإنترنت
تقرير منظمة ARTICLE 19 حذر من أن التعاون غير الشفاف بين الحكومة العراقية وشركات التكنولوجيا قد يؤدي إلى تقويض حرية التعبير المكفولة دستورياً. موقع Maghrebi وFreedom House رصدوا تراجعاً ملحوظاً في حرية الإنترنت داخل العراق، وازدياداً في حالات حجب المواقع أو معاقبة المستخدمين بسبب منشورات ناقدة.
معادلة معقّدة
العراق يقف اليوم أمام معادلة معقّدة: حماية الأمن القومي في وجه التطرف الرقمي، مقابل حماية الفضاء العام من عسكرة الكلمة. بينما تعتبر الدولة أن إغلاق الحسابات “العدائية” جزء من حربها ضد الإرهاب، يرى ناشطون وصحفيون أن الحرب الرقمية تتسع لتصبح وسيلة لتكميم النقد تحت شعارات الأمن والسيادة.
النتيجة
فضاء عام يضيق شيئاً فشيئاً. “الذراع الإلكترونية” التي أُنشئت لحماية البلاد من الفكر المتطرف قد تتحول، من دون ضوابط قانونية شفافة، إلى ذراع رقابية تمتد نحو كل صوت يختلف مع الرواية الرسمية. وفي بلدٍ يعيد تعريف حدوده السياسية والأمنية باستمرار، تبدو حرية التعبير هي الضحية الأحدث في معركة طويلة لم تنتهِ بعد.

