منذ إقرار الدستور العراقي عام 2005، ظلّت علاقة إقليم كردستان بالحكومة الاتحادية تتأرجح بين شراكة مأمولة وصراع متكرر، ورغم أن النصوص الدستورية منحت الإقليم وضعاً فيدرالياً واضحاً، فإن التطبيق العملي كشف عن فجوة عميقة بين التفسير القانوني والممارسة السياسية، وبين الالتزام بروح الشراكة والسعي لإعادة إنتاج مركزية مشددة.
يُصوَّر جزء من الخلافات على أنه اختلافات في تفسير الدستور، خصوصاً في إدارة الثروات الطبيعية وتوزيع الإيرادات. لكن عمق الأزمة يتجاوز لغة النص إلى بنية السلطة وسلوكها؛ فثمة قوى سياسية تعتبر الفيدرالية تهديداً لوحدة الدولة وتعمل على تقليص صلاحيات الإقليم حتى حدود المركزية الصارمة، وفي المقابل، تتنامى في كردستان قناعة بأن التعطيل المتكرر لا يُعالَج إلا بترتيبات أوسع، من ترسيخ فيدرالية حقيقية إلى التفكير بصيغة كونفدرالية، وربما خيارات أخرى حين تتعذر الشراكة العادلة.
أشدّ العقد تعقيداً ملف الطاقة، نفطاً وغازاً، فالإقليم يرى حقه الدستوري في الاستثمار والتسويق وفق قوانينه، بينما تصر الحكومة الاتحادية على حصر التصدير بيدها، وتحوّل الخلاف من نقاش قانوني إلى أداة ضغط سياسي واقتصادي، عبر التعطيل أو التأخير في صرف حصة الإقليم من الموازنة، والالتفاف على حصته من القروض الدولية، وتعطيل حصصه من الأدوية والمنتجات النفطية والمشاريع السيادية، وهكذا صار الاقتصاد اليومي للمواطن أداة تفاوض، وهو ما ينسف الثقة ويقوّض أي حديث عن شراكة.
ويتقاطع ذلك مع ملف المناطق الكردستانية المتنازع عليها – كركوك وسنجار وخانقين وسهل نينوى – حيث تظهر مجدداً محاولات تغيير ديموغرافي تُعيد تدوير صراعات الماضي وتعمّق الانقسام. من دون معالجة عادلة وشفافة لهذا الملف، سيبقى أي اتفاق مالي أو نفطي هشّاً ومرهوناً بالتوترات الميدانية.
ولا ننسى العامل الإقليمي الذي يزيد المشهد تعقيداً، فتركيا تنظر إلى كردستان من زاويتين: أمنية تتصل بالملف الكردي داخل حدودها، واقتصادية تستفيد من أنبوب التصدير والبنية اللوجيستية، وإيران ترى في ترجيح كفة بغداد على حساب الإقليم ضماناً لاستدامة نفوذها، وتدعم – سياسياً وأمنياً – قوى تُضعف أي فيدرالية متوازنة، وعليه، لم يعد الخلاف داخلياً صرفاً؛ إنه جزء من معادلة إقليمية تتقاطع فيها الطاقة مع الأمن وحدود النفوذ.
خريطة طريق عملية لا بد أن تبدأ بإعادة بناء الثقة على قواعد قابلة للقياس والتنفيذ:
• تثبيت التفسير الدستوري المختلف عليه عبر اتفاق ملزم – برعاية قضائية ورقابية دولية – يحدد آليات إدارة النفط والغاز وتوزيع الإيرادات وتوقيتات صرف حصة الإقليم دون تأخير أو اشتراطات سياسية.
• تحييد الملفات الإنسانية والخدمية (الأدوية، والقروض، والمنتجات النفطية، والمشاريع السيادية) وجعلها خاضعة لآلية فنية مشتركة تعمل تلقائياً وفق مؤشرات معلنة، بعيداً عن التجاذب السياسي.
• إنهاء سياسات التغيير الديموغرافي في المناطق المتنازع عليها، مع تفعيل المادة 140 ضمن جدول زمني واضح، وبإشراف أممي يضمن العودة الطوعية وجبر الضرر وإدارة أمنية مهنية غير مسيّسة.
• شراكة متوازنة في الملفات السيادية: المنافذ الحدودية، والتجارة الخارجية، وربط البنى التحتية للطاقة، بما يسمح للإقليم بالاستفادة من موقعه الجغرافي من دون الإضرار بمصالح الدولة الاتحادية.
• إنشاء غرفة تنسيق إقليمي – بوساطة دولية – تُنظم العلاقة الثلاثية (العراق – تركيا – إيران) فيما يخص الطاقة والأمن الحدودي، وتمنع تحويل الخلافات الداخلية إلى أوراق ضغط خارجية.
على المدى المتوسط، ينبغي الانتقال من «فيدرالية على الورق» إلى فيدرالية قابلة للقياس: مؤشرات أداء، ونوافذ زمنية للتنفيذ، وآليات تحكيم سريعة، وإذا تعذر ذلك، فالمصارحة الوطنية مطلوبة لبحث ترتيبات أعلى درجة من اللامركزية – حتى الكونفدرالية – ضمن اتفاق تعاقدي واضح يمنع الانهيار الاقتصادي والأمني ويصون حقوق المكونات.
الخلاصة أن الخلاف بين كردستان وبغداد ليس نزاعاً تقنياً ولا مجرد جدل قانوني؛ إنه امتحان لقدرة العراق على إدارة تنوعه بنظام حكم حديث، إما أن يصبح الدستور عقداً مُلزِماً يُحترم في السراء والضراء، أو يُختزل إلى ورقة تفاوض موسمية تخضع لموازين القوة، بين هذين الخيارين يتقرر مستقبل الدولة: شراكة مستقرة تُنتج اقتصاداً مزدهراً وأمناً مُستداماً، أم مركزية تُعيد تدوير الأزمات وتَستنزف الجميع.

