ليست كل العواصم قادرة على صناعة المشهد فبعضها يشارك بالهتاف وبعضها بالتمويل وبعضها بالصمت. أما القاهرة فهى تكتب المشهد بطريقتها الخاصة: بهدوء صعب وفاعلية لا تُرى إلا في النتائج. لم تعد تحتاج إلى ضجيج لتثبت حضورها لأنها تدرك أن التاريخ لا يُصنع في المؤتمرات الصاخبة ، بل في الغرف الهادئة التي تعرف متى تتكلم ومتى تصمت.
في زمن تتسابق فيه العواصم على الظهور ، اختارت مصر أن تكون الفاعل الهادئ لا المتفرج الصاخب. فبينما تنشغل دول كثيرة باستعراض القوة تُمارس القاهرة ما يمكن تسميته بـ فن الاتزان الصعب اتزان بين المبادئ والمصالح بين الثوابت والمتغيرات بين ما يجب أن يُقال وما يجب أن يُفعل بصمت.
من يتابع السياسة المصرية في السنوات الأخيرة يدرك أننا أمام مدرسة جديدة في إدارة النفوذ. مدرسة لا تؤمن بالمفاجآت ولا بالمبالغات بل بالتحرك المتدرج الذي يغيّر الواقع دون أن يُثير العواصف. هذه المدرسة بنت فلسفتها على قناعة واضحة: أن القوة الحقيقية لا تقاس بحجم الصوت بل بقدرة الدولة على أن تفرض احترامها من دون تهديد وأن تُنجز أهدافها دون إعلان الحرب.
من هنا بدا الدور المصري في ملفات الإقليم نموذجا لما يمكن تسميته الدبلوماسية العاقلة في زمن الفوضى فبينما تتبدل التحالفات وتتصادم المشاريع ظلت القاهرة ثابتة على محور المصلحة الوطنية تُقارب كل أزمة من موقع الوعي لا من موقع الانفعال.
إنها دبلوماسية تشبه نهر النيل: لا يعلو صوته لكنه يصل دائما إلى هدفه.
في غزة كانت القاهرة — ولا تزال — القلب الذي يضخّ في الشرايين الإقليمية نبض التهدئة. لم تكن وسيطا بالمعنى التقليدي بل ضميرا سياسيا يحاول أن يُعيد للمعادلة إنسانيتها المفقودة. فحين تشتعل الجبهات وتتعطل لغة العقل تفتح القاهرة قنواتها المفتوحة مع الجميع بلا استثناء لتصنع مساحة يتنفس فيها الحوار بدلًا من البارود.
ذلك هو الهدوء الصعب الهدوء الذي لا يعني الحياد بل الحكمة. فمصر لم تتخل يوما عن مسؤوليتها القومية لكنها تعلم أن الصراخ لا يُنقذ حياة وأن الحفاظ على الخيوط الدقيقة بين الخصوم هو وحده الذي يمنحها القدرة على الفعل.
وفي الوقت الذي تكتفي فيه بعض القوى بالتصريحات تعمل القاهرة على الأرض: تستقبل الوفود ترسم خرائط التفاهم وتدير التوازنات الدقيقة بين الأطراف المتنازعة. لا تبيع مواقف ولا تشتري مكاسب مؤقتة، لكنها تحفظ لنفسها مكانا دائمًا في قلب كل تسوية جادة.
وإذا كان البعض يقيس النفوذ بعدد الحروب التي تخوضها الدول فإن القاهرة تقيسه بعدد الحروب التي تمنع وقوعها.
فمن السودان إلى ليبيا ومن غزة إلى البحر الأحمر كانت بصمات مصر واضحة: إطفاء الحرائق بدل إشعالها وتجنيب الشعوب مزيدا من الفوضى. إنها فلسفة ترى أن الاستقرار في الإقليم ليس ترفا بل شرطا لبقاء الدولة ذاتها.
وحين يُسأل: لماذا تصر القاهرة على هذا النهج المتزن؟ يكون الجواب ببساطة: لأنها جربت بنفسها ثمن الفوضى وعرفت معنى الدولة حين تتهاوى وأدركت أن القوة بلا وعي تتحول إلى عبء وأن التهور في السياسة كمن يقود سيارة بلا مكابح فوق جسر ضيق.
لكن هذا الهدوء الذي تتقنه مصر ليس استسلاما بل استراتيجية محسوبة بدقة. فالقاهرة تُدرك أن الضجيج لا يغيّر الواقع وأن الصوت العالي لا يُخيف أحدا في زمن تتكلم فيه الجيوش والاقتصادات أكثر من الخطابات. لذلك اختارت أن تضع نفسها في موقع من يصنع القرار لا من يصفه.
وقد أثبتت التجربة أن هذا النهج الهادئ يحقق ما لا تحققه المغامرات. فحين هدأت الأصوات كانت القاهرة تبني. وحين انشغل الآخرون بالظهور الإعلامي كانت تُعيد ترميم شبكة المصالح العربية وتربط بين الملفات التي فرقتها سنوات النزاعات.
إنها السياسة التي تُمارَس بضمير الدولة لا بعاطفة الأفراد سياسة تعرف أن الانفعال لا يصنع التاريخ وأن الحكمة ليست ضعفا بل ذكاء أعلى في إدارة القوة.
ولعل أهم ما يميز الأداء المصري أنه لا يُفرّق بين الأمن والتنمية. فمصر تعي أن الأمن لا يتحقق بالمدرعات وحدها بل بالمصانع والمدارس والفرص التي تمنح المواطن إحساسًا بالانتماء. من هنا كان الداخل المصري جزءًدا من معادلة السياسة الخارجية، لأن استقرار الداخل هو الشرط الأول لاحترام الخارج.
هذه الرؤية جعلت القاهرة تبدو دائمًا كأنها تمشي على حبل مشدود بين متناقضات، لكنها تمشي بثبات. تواجه الإرهاب دون أن تفقد اتزانها، وتدير علاقاتها مع الشرق والغرب دون أن تفقد استقلال قرارها. ذلك هو الهدوء الصعب: أن تحافظ على المبادئ وأنت داخل دوامة المتغيرات.
اللافت أيضا أن القاهرة لا تتعامل مع الملفات الدولية بمنطق رد الفعل بل بمنهج الفاعلية الهادئة. ففي عالم يتغير بسرعة اختارت أن تسبق التغير لا أن تلاحقه. تتحدث مع الجميع وتستمع إلى الجميع لكنها تحتفظ لنفسها بحق الكلمة الأخيرة حين يصبح القرار مصريًا خالصًا.
حتى في القضايا الاقتصادية امتد هذا النهج: لا اندفاع مفرط ولا تردد قاتل بل تخطيط متدرج لبناء شراكات استراتيجية تُعيد تعريف مكانة مصر في الاقتصاد العالمي. فبينما تتغير موازين القوى المالية والتجارية تحافظ القاهرة على موقعها كمحور توازن بين الشرق والغرب بين إفريقيا والعالم العربي بين البحر واليابسة
وحين يُنظر إلى مصر من الخارج يُدرك المراقبون أن وراء هذا الهدوء عقلا يقرأ المشهد كاملا. فالقاهرة تعرف أن العالم يعيش مرحلة “إعادة تشكيل”، وأن من يخطئ في الحساب الآن قد يخرج من التاريخ لعقود. لذلك تُفضّل أن تكتب ببطء على أن تُمحى بسرعة.
هي لا تندفع خلف موجة ولا تنساق وراء ضغوط لأنها تعي أن الزمن في السياسة ليس عدوا بل حليفا لمن يحسن استخدامه. ولذلك حين تتكلم القاهرة يصمت الآخرون ليفهموا الاتجاه لأن التجربة علمتهم أن صمتها الطويل لا يعني غيابها بل أنها تُفكّر لتتحرك حين يحين الوقت.
إن السياسة على طريقة القاهرة ليست درسًا في الدبلوماسية فحسب بل في فن البقاء وسط العواصف. فالدول لا تُقاس بحجم أراضيها بل بقدرتها على البقاء مؤثرة رغم الضغوط. ومصر، رغم كل التحديات ما زالت تمسك بخيوط اللعبة بمهارة الهدوء الصعب: لا تنكسر ولا تنجرف ولا تتنازل عن موقعها كصاحبة الدور الأقدم والأصدق في معادلة المنطقة.
اليوم بينما تتبدل التحالفات ويشتد سباق النفوذ تواصل القاهرة كتابة مشهدها بالحبر ذاته: حبر الحكمة والاتزان. إنها لا تلهث خلف عناوين البطولة المؤقتة بل تكتب تاريخا طويل المدى. فحين ينسى الآخرون ضجيجهم ، تبقى بصمة مصر واضحة: بصمة الوعي في زمن الارتباك وصوت الدولة العاقلة في زمن العواصف.
ذلك هو الهدوء الصعب الذي اختارته القاهرة.. هدوء العقول الكبيرة التي تدرك أن العالم لا يسمع من يصرخ بل من يملك الفعل.

